أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الأول)

رواية أنا أكرهكم

رواية أنا أكرهكم (الجزء الأول)

رواية أنا أكرهكم (الجزء الأول)


(1)

جائع، شارد، طريد، بردان ومرتجف، وخائر القوى!
أمشي دون أن أعي إلى أين، سأظل هكذا حتى أموت.
نظرتُ إلى قدماي الملوثة بالوحل، وقد اتسخت اتساخًا عظيما حتى صارت سوداء.
كنت أشعر بأنني لا أستطيع أن أحركها أكثر من ذلك، إنني أسير عليها منذ التاسعة صباحا،
 والآن منتصف الليل على ما أظن، أتعتقدون أن أحدًا منكم يستطيع أن يسير كل هذه المدة على قدميه ..؟
 بدون طعام أو ماء؟
لكن، بما أنني سأسير حتى الموت، إذن فعلي السير ولو تحاملتُ على نفسي أكثر..
ظللتُ أمشي ببطء شديد وأنا لا أبالي بلهاثي وعطشي وجوعي والبرد الذي أشعر به.
خرجتُ أخيرا من منطقة الوحل، ووقفت في منتصف شارع فرعي ولكنه واسع، 
تلفتُ حولي، الظلام دامس ولا توجد أية إضاءة إلا في الأفق البعيد هناك!
ربما الموت في الظلام أفضل؟

أثناء وقوفي شاردًا، وجدت سيارة تمشي مسرعة في الطريق الذي أقف فيه،
 وبرغم أنني لا نية لي لكي أستمر في هذه الحياة، إلا أنني تحركتُ بطريقة آلية لأبتعد عن السيارة..
ثم فتحت عيناي دهشة وذهولا..
 وأنا أشعر بتلك السيارة المسرعة تُحطم أضلُعي وترميني أرضًا، 
يبدو أن قائدها صُدم بكوني واقفا في منتصف الطريق هكذا.. 
لكنني لستُ متضايقا،
فأنا سواء وقفتُ أم هربت، كنتُ سأموت، أنا فقط أكره هذا السائق كرها شديدا، 
كما أنني أكره أبي وأمي أكثر.. أكره حياتي! 

أنا أكرههم وأكرهكم.. كلكم أكرهكم!
أنا أختنق، ولكن لا بأس!
وبسرعة شديدة أظلم كل شيء حولي، ولم أسمع أي صوت أبدا!

_

فتحتُ عيناي فجأة، ولكنني وجدتُ السماء في وجهي، يبدو أن الفجر قد أذن، فالسماء مشرقة بنور الفجر الخفيف هذا!
كان جسدي كما هو مُلقى على الأرض في منتصف الطريق،

 ويبدو أن قائد السيارة التي صدمتني قد نفذ بجلده عندما رأى حالي، كم هو حقير قذر!
شعرتُ بطعم الدماء في فمي، مرحى.. إنني أنزف، وهذا معناها أنني سأموت : )
كم أنا سعيد الآن.. 

المهم، كنت أريد أن ألقي نظرة سريعة على جسدي قبل الموت، حاولت أن أحرّك رقبتي..
 وجهي.. أي جزء من جسدي، لكنني لم أستطع نهائيا، جسدي يرفض الحركة تماما!

لم يبق لي إلا منظر السماء الصافية أراها قبل موتي..
أغمضت عينيّ قليلا، فسمعت صوت رجل قادم من بعيد ينُادي: أيها الفتى...!
فتحت عينيّ ببطء فوجدت أحد الناس _الذين أكرههم _ يأتي وينحني علي ويقول في قلق: أأنتَ بخير؟ ماذا حصل؟
نظرتُ له نظرة ذابلة خالية من المعاني إلا معنى واحدًا وهو اتركني وشأني.
لكنه لم يبال بها وهو ينحني بسرعة ليحملني على كتفه بحرص شديد 
ويمشي بي سريعا إلى مكان أجهلُه، كنت أريد أن أهتف به أن يتركني.. لكن..
لكن شفتاي كانتا لا تتحركان! حاولتُ كثيرا..
رحت أصرخ بداخلي: اتركني، أريد أن أموت أيها الوغد.
لكن هذا الرجل! لا يسمعني، إنه.. لا يسسـ...مـعـ..ني..!

_

شعرتُ بآلام رهيبة وأنا غائب عن الوعي، لا أدري كيف شعرتُ بها لكنني كنتُ أتعذب بالفعل!
 تبَّا لك، لمَ تحاول إنقاذي؟ أأنا طلبتُ ذلك منك؟ لم أطلب هذا من أحد أبدا! فلماذا يفعل شيئا لم أطلبه منه؟
فتحت أذنيَّ على صوت تقليب صفحات كتابٍ ما، تائهٌ أحاول تحليل ما أنا فيه الآن،
 لم أكن فتحت عيني كلها بعد وقد صرخت فتاة ما بفرحة مفاجئة: لقد استيقظ!
ووضعتْ الكتاب على منضدة صغيرة بجانبي وهرولت إلى الخارج وهي تنادي: أبي. أبي!
أما أنا فقد حاولتُ التغلب على تشوش رؤيتي وذلك الضباب الذي يلف عيني فلا أتمكن من الرؤية بوضوح.
اعتدل بصري، فنظرتُ إلى ما حولي، الغرفة واسعة كبيرة،
 لها نافذة في المنتصف تزيّنها ستائر فضية اللون، مع جدار أبيض، وخزانة ملابس كبيرة على الجانب الأيمن.
في الجانب الأيسر تستقر مكتبة متوسطة الحجم مليئة بمختلف أنواع الكتب،
 وأريكتان في الزاوية مع مكتب بني متواضع تحت النافذة، لم أستطع رؤية ما على الأرض فأنا ما زلتُ مخدّر الجسم بعد.
نظرتُ إلى جسدي الذي كان مغطى بغطاء صوفي ثقيل، حقا، إنني أشعر بالدفء!
حاولتُ أن أحرك يدي لأرفع الغطاء، لكن الألم جعلني أتسمّر في مكاني!!
هل أنا مشلول أم ماذا؟
فُتحت عيناي عن آخرها دهشة ورعبا، يبدو أن هذا الرجل أنقذني لأتعذب في هذه الحياة.
 سأموت غصبًا عن كل ما يفعله لي، سأنتقم لنفسي منه! 
بأي حق يتصرف في جسدي ويعالجني رغما عني، يا أخي أنا أريد الموت فلماذا تتدخل في حياة الآخرين؟
عفوا.. أقصد في موت الآخرين!
ولأنني لم أستطع تحريك يدي اليمنى، حاولت تحريك اليسرى، وقد تحركت.
رفعت الغطاء عني بصعوبة شديدة، وحينئذ ارتفع حاجباي تعجبا،
 فقد كانت يدي اليمنى مجبّرة بجبيرة طويلة عريضة، فهمتُ إذن لمَ لمْ أستطع تحريكها!! 
أما باقي جسدي ويدي الأخرى فقد ألبسني هذا الرجل ملابسًا قطنية دافئة وناعمة...!
أخذتُ نفسًا عميقا.. عميقا جدا! حتى دارتْ رأسي.

تشجعت وحاولتُ الجلوس، ولكنني صٌدمت بكمية ألم رهيبة جعلتني أشعر أن قلبي توقف ولم أعد قادرا على التنفس،
 فأمسكتُ بصدري مختنقا حتى بدأ الهواء يخرج ويدخل، رحت أسعل وقد احمّر وجهي..

كنت أغمض عينيّ ولذا لم أنتبه للرجل الذي أتى مسرعا ووضع يده على كتفي في خوف واهتمام:
أأنت بخير بني؟ أتحتاجُ شيئا؟

بعد أن انتهت نوبة السعال وبدأ تنفسي ينتظم، حاولت أن أنظر إليه بهدوء، 
ففوجئت بوجه رجل في الثلاثين، له بشرة بيضاء، وابتسامة واسعة، وعينان هادئتان كحيلتان،
 يُغلفهما الهدوء والوقار، وله شعر بنيّ متموّج يصل إلى أذنيه، ولحية خفيفة بنفس لون الشعر قصيرة.. 

نظرتُ له عابسا متضايقًا، عابسا بسبب الألم الذي أجده في صدري، ومتضايقا كل ما تذكرت أنني لم أمت حتى الآن،
 فازدادت ابتسامته اتسّاعا، وقال وهو يُربت على ظهري: 
أعلم أنك مستاء بسبب ما حصل لك، لكن يا بني هذا قدرك، ومن لطف الله بك أن سخّرني لأنقذك!
قلتُ في داخلي بسخرية: من لطف الله أن سخرك! بل قل إنك بلاء ابتلاني الله به يجب أن أتخلص منه.
كنت أسند رأسي غصبًا على جسدي، وأنا أحاول إيجاد حل لهذه المصيبة وكيف أتخلص منهم؟
ذهب الرجل قائلا: انتظر قليلا سأحضر مقياس الضغط فكُن هادئا.
بقيت الفتاة وهي تنظر لي بابتسامة ورهبة، 
خرجت قليلا لتحضر طبق حساءٍ خرجت رائحته الزكية تُداعب شعيرات أنفي وتعاكس معدتي..
ثم وقفت مبتسمة وقدمت لي ملعقة وهي تقول في لطف وارتباك:
 سأطُعمك أنا لأنك لا تستطيع استخدام يدك اليمنى!
زُدتُ عبوسا في وجهها، فارتبكت وهي تقدم لي الملعقة لتدخل في فمي،
 في هذه اللحظة بلغتُ أشد انفعالاتي وأشد حالات هبوط الصبر عندي فنظرتُ لها في برود وقلت: أتمزحين؟
نظرت لي بدهشة، فرفعت يدي اليُسرى بكل غضب لأضرب يدها الممسكة بالملعقة فتطير إلى آخر الغرفة،
 ثم أضرب الصحن الذي تُمسكه بيدها الأخرى فيسقط أرضا ويتكسرّ على قدميها،
 وتلسع سخونته جلدها الناعم الرطب، فتصرخ بألم ووجهها يحمّر.
وتبتعد تلقائيا عنّي بخوف شديد وهي ترتجف، ثم تهمس قائلة: لماذا.. لماذا فعلت ذلك؟
أزحتُ باقي الغطاء عني وأنا أقول بصوت منخفض لا مبالي: لا شأن لك.

نزلتُ على أقدامي وابتعدتُ عن الحساء المسكوب على الأرض كأنه نجاسة،
 وهي هرولت مبتعدة عني عندما رأتني أحاول القيام من سريري، أهي غبيّة؟
 أتحسبُني سأعتدي عليها وأنا في تلك الحال؟
وقفت أخيرا على الأرض بعد معاناة وتعب،
 واستندتُ إلى الباب برأسي وأنا أشعر بهبوط شديد في نبضات قلبي، وأنفاسي تزداد تباطأً، ما هذا الذي يحصل لي؟
مشيتُ عدة خطوات وأنا أحاول التفكير بعقلي المنهك، أين المخرج؟

وجدت بابا خشبيا أمامي كبيرا يبدو أنه هو المخرج، خصوصا أن هناك عينا سحرية فيه،
 مشيتُ له حتى فتحته بسهولة من الداخل، ووقفت قليلا أستند عليه وأنا ألهث، وجدت يدين تمتد من ورائي وتُوضع على كتفي،
 وصوت ذلك الرجل يقول بخوف وقلق: بنيّ.. ماذا بك؟ أهناك ما يشغل بالك وتريد الاطمئنان عليه؟ لماذا تريد الخروج؟

كنتُ أظن أنه سيغضب لأنني كسرت الطبق على ابنته، ولكنه كان مهتما حقا بوجودي،
 وهذا ليس مبررا طبعا أن يحبسني في بيته بحجة أنه يريد معالجتي.. ولا أن يساعدني ولا يشفق علي..
فأنا لا أريد أية مساعدة من أحد، حتى ولو كنتُ على أعتاب الموت.. 
ورأيتُ يدا تمتد لتنقذني فلن أقبل، لكن هذا الرجل أجبرني على قبول مساعدته! وها أنا الآن أصحح غلطته.
قلتُ له في إنهاك وضيق: لا أريد أن يساعدني شخص مثلك!
ثم جئت لأكمل خروجي فإذا به يُمسكني في رفق ويقول في لطف: اهدأ وتعال لندخل ونتفاهمّ! أهناك ما أزعجك؟

في تلك اللحظة بكل الانهيارات النفسية والجسدية التي تعتمل في داخل نفسي، فقد أبعدتُ يده بقوة،
 وطبعا كانت يدي مرتجفة ضعيفة، لهذا أعتقد أنه أبعد يده من تلقاء نفسه ليجعلني أظنّ أنني قوي بعض الشيء، 
ولو ضغط قليلا على يدي لسقطت على الفور دون وعي.
ولأن هناك بعض السلالم القصيرة لكي أصل إلى سور الحديقة، فقد رميتُ نفسي من فوقها،
 ليس هناك استعداد أن أنزلها واحدة واحدة.. فهويتُ على وجهي دون شعور مني،
 لبثتُ وقتا طويلا وأنا أرفع نفسي على الأرض لأجلس، وقلتُ للرجل بشموخ مترّنح:
لن أتشرف بدخول منزلك مرة أخرى، أرجو ألا تتدخل في حياتي ثانية أتفهم؟

حاولتُ أن أقف مرة أخرى ولكن كانت قواي قد خارت نهائيا، 
تداركتُ أنفاسي ووقفت بقوة لأن ذاك الوغد واقف يشاهدني وأنا بهذه الحال.
خرجت واستندتُ إلى سور حديقة منزلهم لآخذ بعض أنفاسي، 
والحقيقة أن أنفاسي عندما أخذتها جعلت الدنيا تدور من حولي وتجعلني غير قادر على رفع رأسي فوق جسدي!
وجدت الرجل قد أتى ووقف عند رأسي وظل يتأملني وأنا ألهث بتعب شديد.
كنت أريد أن أصرخ في وجهه أن يبتعد عني ولكنني عندما التفت له بضيق قال في هدوء:
إذا كنت لن تتشرف بدخول منزلي، فهذا السور الذي تستند عليه جزء منه.
ضغطتُ على أسناني وأنا أحاول أن أبقى واعيا، نظرتُ له شزرا ثم رميتُ نفسي إلى منتصف الطريق،
 الآن ليس له أي حجة فالطريق ملك للجميع!
ولكن.. حصلت مشكلة صغيرة حينها!
هي أنني فقدتُ وعيي على الفور.. في منتصف الطريق!

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم