أحدث الموضوعات

رواية بهابيهو، طفولة بهاء (جزء إضافي)

رواية بهابيهو

رواية بهابيهو، طفولة بهاء (جزء إضافي)

رواية بهابيهو، طفولة بهاء (جزء إضافي)

طفولة بهاء

جزء إضافي

طفولة بهاء


ذكريات عثمان وطارق
_ في عمُر السادسة_
كانت المدرسة في السنة الأولى قد أقامت رحلة للطلاب إلى ملاهي مشهورة جدا 
في إحدى المدن البعيدة والتي كان يستلزم السفر إليها لمدة ثلاث ساعات!

كانت تلك الملاهي هي الوحيدة في ذلك الوقت التي تبدو عليها الجودة والأمان للأطفال،
 ولأنه لا يليق بـالمدرسة التي كان أبي يلحقنا فيها أن تذهب إلى أي ملاهي رخيصة 
(كانت مدرسة لغات عربية غالية الثمن) فقد حددت يومًا في الأسبوع ننطلق فيه من الساعة السادسة صباحًا، 

ونصل إلى المدينة التاسعة ثم نستريح قليلا في فندق قريب من الملاهي لثلاث ساعات أخرى 
ويتم الانطلاق من الفندق في تمام الواحدة ظهرًا بعد طعام الغداء. 
ثم نعود في الساعة الخامسة عصرًا وبعد العشاء ننطلق لنصل إلى بيوتنا في الساعة العاشرة مساء.
كان الأطفال متحمسين جدا لهذه الرحلة خصوصا بعد رؤية إعلانات مدينة الملاهي على موقعها في الانترنت 
وكل تلك المميزات الخيالية التي تحتويها.
كنتُ ليلتها أغيظ أخي عامر الذي كان يذاكر دروسه باهتمام شديد من أجل امتحان الغد، 
كنت أخُرج له لساني فيضربني بالكتاب ويخرج وأنا أنفجر في الضحك.

كانت أمي سعيدة للحظات الفرحة التي أنا فيها، 
فمنذ أن أدخلني أبي في هذه المدرسة وأنا لا أتحمّل الحزم الشديد فيها وكثرة مواد اللغة العربية التي ندرسها،
 بل وكمية حفظ القرآن اليومية التي يجب علينا حفظها.
لم يكن قد مرّ على بداية الفصل الدراسي الأول سوى أسابيع قليلة،
 لم أتمكن خلالها من تكوين أصدقاء جدد لي، فطبيعتي هادئة ولا أحب التعامل مع غيري.

إلا أن هناك صبيًّا أثار اهتمامي في نفس فصلي، كان ذكيا وسريع الإجابة، لديه حس الدعابة أيضًا، 
حتى أنه كان يُضحك الكثير من المدرسين الذين يدخلون علينا بوجه جامد،
 وتعجبت من قدرته تلك في التقرب من المعلمين رغم أنه في مثل سننا!

وذات مرة حاولت الجلوس بجانبه والعرق يغمر وجهي الأبيض، كنت متوترًا، 
لكنني تذكرت قول والدي لي بأن أتعرف معرفة ولو بسيطة مع أي ولد يثير انتباهي ليصبح صديقي في المستقبل، 
فالعيش بدون أصدقاء حياة صعبة.
بدأت بشفاه مرتجفة أناديه، التفت إلي بعينيه الملوّنتين، ضحك في وجهي فجأة فأزال قليلًا من التوتر..
 قال: أنت عثمان..! الفتى الهادئ في الفصل.. غير معقول، هل تود الحديث معي؟
ترددتُ فجأة وأنا أرى ملامحه الواثقة، لماذا خيُّل إلي أنه مغرور جدا!؟
هل أنا متأكد من أنني أريده صديقًا لي؟ 
تداركتُ نفسي والمدرس يدخل الفصل ليعود الجميع إلى أماكنهم،
 ومنذ ذلك الحين وأنا متردد في اتخاذ أي صديق ما.
قال المشرف وهو يقف أمام باب الحافلة: هيا واحدًا واحدًا إلى الحافلة!
تقدّم الأطفال بصف منتظم وعلى وجوههم ابتسامة منفعلة وفرحة قوية بهذا اليوم.
صعدتُ سلم الحافلة وأنا أُمنّي نفسي بيوم حافل بالألعاب الرائعة.
وجدتُ مقعدًا فارغًا على الطرف فجلستُ عليه بتلقائية دون الانتباه لذلك الصبي الذي يجلس بجانبي ويحدّق في النافذة.
مرّت ربع ساعة حتى انتظم الثلاثون طالبًا في الحافلة، 
ثم وقف المرشد يقرأ علينا بعض التعليمات، بعد ثوان انطلقت الحافلة أخيرًا في تمام السادسة.
حان وقت الالتفات لذلك الفتى الذي بجانبي، 
نظرتُ بهدوء إلى شعره الأسود الناعم القصير، لم يلتفت بوجهه أبدًا لي، ما باله؟
لكنه فجأة التفت وكأنه أحس أن أحدًا ينظر إليه من الخلف، 
صُدمت بعينيه الرماديتين، كانت على وجهه ملامح أخرى،
 لكنه عندما رآني انفرجت شفتاه عن ابتسامة واسعة قائلًا: 
عثمان.. كم هذا لطيف أن تُشاركني الجلوس هذا اليوم.
ثم نظر إلي بحنان غريب ومدّ يده مصافحًا قائلا: ما رأيك أن نصبح صديقين؟
ترددتُ بعض الشيء وأنا أحرّك يدي ببطء، لا أستطيع إحراجه بقول لا، لكنه قال فجأة:
أنا لستُ مغرورًا كما تظن!
اتسعت عيناي على أشدّها وأنا أنظر إليه بدهشة، لقد قرأ أفكاري!
ثم قال بلهجة مُرحبّة: جرّب صحبتي لهذا اليوم فقط!

أُحرجت أخيرا عندما وجدت أن لا خيار آخر أمامي، مددتُ يدي إليه وابتسمت: 
حسنا يا بهاء.. أنا موافق!
_

مشينا في ممرات الفندق بصفوف ثنائية منتظمة، كانت الرحلة طويلة ومملة للغاية وشعرت بالغثيان لطول الطريق،
 أما بهاء فقد كان في قمة حيويته طول الطريق وظلّ ينظر بانبهار إلى الصحراء والجبال التي حولنا،
 كان يراقب الطريق باهتمام شديد.
صعدنا إلى غرفنا، وقال المرشد أننا سننام ثلاث ساعات للراحة حتى الغداء،
 كان الأطفال متعبين بحق، التهوا قليلا بتأمل الأسرّة المنتظمة النظيفة وبقية الأثاث في الغرفة ثم ناموا..

 كان كل سرير عليه اثنين، وبالطبع نمت بجانب بهاء، شعرتُ فجأة به يقول بهمس: 
عثمان.. ألا تريد استكشاف الفندق؟ إنه مليء بالمحلّات الصغيرة في الأسفل، تعال لنلق نظرة..
 وبرقت عيناه في شغف.
كان في داخلي استعداد للإجرام، أقصد.. 
لاستكشاف تلك المحلّات المبهرة في الأسفل، لكنني أعلم أنه من الممنوع التجوّل لوحدنا، 
خصوصا أن على باب كل غرفة مشرف لرعاية الأطفال.
همس بهاء في أذني أن من المستحيل أن يقف المشرف على باب غرفتنا لثلاث ساعات، 
لابد أنه سيطمئن أننا نمنا ثم يغادر!
انتظرنا نصف ساعة أخرى، تشنجتُ والمشرف يمرّ علينا ليتأكد من نومنا ثم يغادر،
 تعجبت من ذكاء هذا الفتى!
كنت غير متأكد بأن ما نفعله صحيح، فأنا ابن شرطيّ وأحمل للقواعد احترامًا كبيرًا! 
لكنني كنت أجبن من أن أستسلم وأترك بهاء يذهب للاستكشاف وحدَه!
تسللنا بالفعل إلى الأسفل دون ملاحظة أحد، وكم كان قلبي يدقّ بعنف 
وأنا أرى ابتسامة بهاء المكللّة بالنصر ونحن نتنزه بحرية أمام تلك المحلات،
 وقف بهاء أمام محلّ يبيع حلويّات معروضة، نظرت بانبهار إلى منظرها والشوكولاتة السائلة تسيل على جانبيها!
 ضحك بهاء وهو يقول: ما رأيك، لنشتر شيئًا..
قلتُ بوجل: ليس معي أي نقود!

ابتسم وهو يُخرج من جيبه بضع أوراق نقدية، قائلا بثقة: أنا معي.
وبالفعل اشترى قطعتين منهما، شعرتُ بالسوء حيالها لأنها معروضة ومكشوفة في الجو هكذا.. 
قلت لبهاء إحساسي فقال: لا لا.. إنه محلّ نظيف، كما أنه ليس في الشارع.
أعطاني قطعة وأخذ هو واحدة والتهمها، كان لعابي يسيل وأنا أنظر إليها، لكنني كنت مترددا،
 نظر إلي باستغراب وهو يمسح بقايا الكريمة عن فمه: ماذا؟ ألن تأكل؟
قلتُ باضطراب: لستُ جائعًا، كما أنني.. لا أريد أن أأكل شيئًا مكشوفًا!
نظر بصمت إلي، وكأنه يفكر بعمق، يبدو أن والديه أيضا قد أخبراه ألا يأكل شيئًا مكشوفًا! 
ولست وحدي من يلقى مثل هذه التعليمات من والديه!
قال بعد تنهد: 
هذه الفرصة لن تتكرر مرتين، كثيرًا ما أريد شراء الحلويات 
ولكن تمنعني أمي بحجة أنها ستصنعها في البيت بسهولة.. هات!
أخذها مني وتناولها هي الأخرى، لم أكن حزينًا لأنه أخذها، لكني تشجعت قليلا بسببه!
 وقلت في المرة القادمة ربما أشتري بالفعل!
صعدنا أخيرًا متسللين، ولم يكن المشرف موجودًا، تنفستُ الصعداء بعمق وأنا أنام على سريري بجانب بهاء،
 أسعدتني كثيرًا تلك الرحلة القصيرة ومغامرة ركوب المصعد ومواجهة نظرات الجميع المستنكرة لأننا طفلين، 
كما أن بهاء يعاملني بتلقائية وعفوية شديدة وكأنني صديق له منذ زمن!

لكن علي أن أحذر، لقد خالف تعليمات والديه ومثل هذا الطفل لابد أنه!
لابد أنه ماذا؟ أنا أيضا خالفت تعليمات المشرف!
استسلمتُ للنوم أخيرًا بعد نظرة أخيرة للساعة التي كانت تُقارب العاشرة والنصف صباحًا.
استيقظت على صوت تنفس عالٍ بجانبي، كنت أتقلّب في فراشي وأنا منزعج ممن قطع علي نومي،
 قررتُ أن أفتح عيني عندما سمعتُ أنينًا ضعيفًا من جانبي.!

وجدتُ بهاء يُعطيني ظهره ويتكوّر على نفسه كأنه جنين، والعرق يظهر على رقبته من الخلف، 
جلستُ بخوف وأنا أراه بتلك الحالة، اقتربتُ من وجهه لأراه مصفرًّا والعرق يتصفد من جبينه،
 فتح عينيه عندما شعر بي، عقد حاجبيه بضيق عندما سألته بقلق: 
ما بك؟ قال بصوت متألم: لا شأن لك!
قلتُ بخوف:
 لا.. أنت تبدو مريضًا!
 وأتبعتُ ذلك بوضع يدي على جبينه، ما إن أحس بي حتى ضرب يدي بقوة قائلا: قلت لا تتدخل!
ودفن رأسه في المخدة وكتم أنفاسه الساخنة!
ظللتُ أراقب جسده الذي يعلو ويهبط ببطء كأنه على وشك الموت وأنا محتار فيم أفعل له!
بعد قليل، دخل مشرف الطلاب مصفّقا بيديه ليقول: 
الآن وقت الغداء يا شباب، هيا نصلّي الظهر ونأكل وجبة الغداء ثم ننطلق إن شاء الله!
حانت مني التفاتة للساعة التي كانت الثانية عشرة ظهرًا، والتفاتة لبهاء الذي ينتفض على سريره، 
وانعقد لساني بتردد وأنا أنظر للطلاب يدخلون الحمام في طوابير منتظمة، ويتوضؤون،
 لمستُ كتف بهاء ببطء لأهمس له: بهاء يجب أن نصطف في الطابور لندخل الحمام.. أم أخبر المشرف أنك مُتعب؟
سمعتُ همسًا غاضبًا من بين أسنانه: إيّاك!
قام وتحامل على نفسه وهو يجاهد ليقف على قدميه بشكل طبيعي، مع أن وجهه الشاحب كان مفضوحًا.
انتبه المشرف لذلك فقال باستغراب: آه بهاء.. ما بك؟
ضحك بهاء بقوة ضحكة مغتصبة ليقول بصوت عال: آه.. إنه الحرّ! أشعر بالحر الشديد يا أستاذ!
قال المشرف مبتسما: بالفعل تبدو متعرقا! إذن الوضوء سيحل المشكلة!
كنتُ التالي بعد بهاء، وقفت بجانبه وهو يغسل وجهه بالماء ويرتعش، كنت قلقا عليه بشدة،
 لابد أن معدته تؤلمه بسبب ما أكل اليوم؛ هذا هو التفسير الوحيد!
فجأة وضع يده على فمه وتقيأ! أغمضت عيني وأدرتُ وجهي إلى الناحية الأخرى! 
ولكنني لم أبق هكذا طويلًا، إذ أنني لمحت جسده وهو يهوي إلى الأرض، 
يبدو أن قدميه المرتعشتين لم تمكنّاه من الوقوف لعدة دقائق!
عندئذ كان لابد من تدخل أحدٍ ما، صرختُ بأعلى صوتي: أستااذ.. تعال بسرعة أرجوك!
هرع إلي وعلى وجهه ملامح الفزع، قلتُ له لاهثا: لقد سقط بعد أن تقيّأ!
حمله الأستاذ بسرعة وهو يناديه، غسل وجهه بماء بارد ليشهق بهاء ويفتح عينيه،
 سأله الأستاذ: ماذا أكلت.. ماذا حصل لك يا بهاء؟

ازدرد لعابه بإنهاك ونظر إلي نظرات عتاب، ولكنه لم يكن أمامي حل آخر يا بهاء!
 قلتُها بعينيّ فتفهمّها بسهولة ونظر إلى الأستاذ.
ثم قال بصوت ضعيف: لقد سهرت ليلة البارحة من شدة حماسي للرحلة، إنه إرهاق فقط بسبب عدم النوم!
قال الأستاذ معاتبًا بضيق: ولكننا أوصينا الوالدين مرارًا وتكرارًا بالتأكد من نوم أبنائهم!
ابتسم بهاء ابتسامة باهتة وهو يغمغم:
بالفعل لقد ظللتُ على السرير طوال الليل لكنني لم أنم! دعني أنم فقط وسأكون بخير.
تنهّد الأستاذ بحيرة وهو يحمله إلى سريره، كانت نظرات بهاء مثبّتة علي قبل أن يُغمض عينيه ويستسلم للنوم!
صلّيتُ الظهر معهم جماعة وجلست بجانب بهاء النائم وشعره الأسود يتناثر بفعل العرق على جبينه الصغير.. 
كنتُ أنظر إليه بشفقة ورثاء، وفجأة تعجبت من نفسي، لم أجلس بجانبه؟ 
لم قررتُ أن أكون بجانبه هذا اليوم رغم أنني لم يسبق لي أن فعلتُها مع أحدهم!
تذكرتُ جملتُه التي قالها في الحافلة: جرّب صُحبتي لهذا اليوم فقط!
هل كان يعلم أنه سيصيبه هذا؟ بالطبع لم يكن يعلم! 
ربما كان يريد النزول إلى المحلات ليُسلّيني، ويثبت لي أنه جدير بصداقتي!

وُزّعت علينا وجبات الغداء، وتناقش المشرف مع المشرفين الباقييْن في حالة بهاء، 
كان يجب أن يبقى معه أحدهم، والمشكلة أنهم ثلاثة فقط! ونحن ثلاثون طالبًا، أيْ لكل عشرة طلّاب مشرف، 
وهكذا قررّ المشرفون أن يتركوا بهاء مع إحدى النادلات في الفندق لتعتني به، وهكذا حان وقت الذهاب،
 شاهدت تلك النادلة بكامل أناقتها وأدوات التجميل التي تضعها على وجهها، تغطّي بهاء وتضع على جبينه كمادات باردة،
 لا أدري لم شعرتُ بالغيرة.. أو الضيق.. أو!! 
لا أعلم حقا، شعورٌ غير مُفسّر! لكنني لم أرغب أبدًا في الذهاب دونه إلى الملاهي!
قال الأستاذ لي عندما رآني ما أزال جالسًا على السرير بجانب بهاء: عثمان.. ألم تتجهز بعد؟ سنتحرّك الآن!
لكنني_لسبب غير واضح_قلت بهدوء وثقة: لن أذهب.
رفع الأستاذ حاجبيه على أشدّهما في دهشة قائلًا: ماذا تقول؟ لمَ؟
قلتُ: سأظلّ معه.
قال وهو يُطمئنني ويخفي دهشته من علاقتي المفاجِئة مع بهاء: ولكن الأستاذة سهى ستظل معه.
هززتُ رأسي نفيًا بعناد: لن أذهب.. إن لم توافق على بقائي معه فستوافق على أنني متعب وأريد الراحة!
حاول الأستاذ مرة.. مرتين، لكنني كنتُ مصرًّا! 
حتى رضخ للأمر الواقع بعد محاولات الإغراء بما في الملاهي من ألعاب ومسابح وأراجيح.. إلخ! 
التي رفضتّها بصرامة غريبة.
وبالتأكيد أوصى الأستاذة سهى عليّ، نظرتْ لي نظرات باردة بعدساتها الصناعية ورموشها الطويلة المركّبة،
 ثم ابتسمت ابتسامة مصطنعة بأحمر شفاهها الفاقع!
_

ظللتُ أتأمّل في بهاء حتى نمتُ، ولكنني استيقظتُ مرة أخرى على صوت سعال وتقيأ في الحمام،
 قمت بفزع لأراه مرة أخرى..
 كان في حالة صعبة جدا هذه المرة.
لم أفكّر في نداء أي أحد! كنت أعتقد أنه سيموت، أو أنه سيحتضر!
كان يتنفس ببطء ثم خرج من الحمام وارتمى على الأرض، لم ينتظر حتى أن يصل إلى السرير.
ركضتُ إليه قائلا بهلع: كيف أساعدك يا بهاء؟ كيف؟ أخبرني!

رفع رأسه بينما شعره المبلل من الماء يقطرُ، ونظر إلي بعينين ذابلتين قائلا: لم لمْ تذهب معهم؟
لم أتوقع أن يسأل هذا السؤال في هذه الحالة! جفلتُ وأنا أنظر إليه قائلا: وأتركك هاهنا؟
حاول النهوض قائلا: تلك النادلة.. موجودة!
قلتُ بحدة: إنها لا تنفع في شيء.. كما أنني قلق عليك جدا!
مدّ يده إليّ ليقول: حقا؟ ولكنني السبب فيما حصل لي، لا حاجة لك أن تتحمل ذنبًا ليس ذنبك!
أمسكتُ يديه وعاونته حتى جلس على السرير، ثم قلت له بعتاب: 
ألم تقل أن نبقى أصدقاء لهذا اليوم فقط؟ أهناك صديق يترك صديقه في مثل حالتك؟
أخفى ابتسامته ليستلقي على السرير ببطء، كنت أشعر أن علي فعل شيء ما بدلًا من تلك النادلة،
 خصوصا عندما رأيته يتلوّى من الألم ممُسكا بطنه ويحاول كتم أنينه،
 ركضتُ إلى حقيبته المدرسية بعزم وأخرجتُ بطاقته (بطاقة فيها الاسم والسنّ والصف ورقم الأب)
 ثم هرولتُ إلى كابينة هاتف في الدور الرابع رأيتها عندما خرجت معه صباحًا، واتصلتُ بوالده،
 ردّ الأب بصوت حيويّ: نعم..
قلت بصوت متماسك: أ.أهلا.. أبو بهاء؟ أليس كذلك يا سيدي؟
استغرب طارق كثيرًا من صوت طفل.. يعرف من هو ويتصل به من رقم غريب!
سأل باستغراب: من؟ من أنت؟
ابتلعتُ ريقي وأنا أقول: أنا اسمي عثمان، أنا مع بهاء في الفصل!
بدت الشكوك تحوم في قلب طارق وهو يحاول استنتاج العلاقة أو الخبر الذي سيأتي بعد قليل!
ثم قلتُ بانفعال: سيدي.. بهاء يتقيأ وحالته صعبة جدا، إنه يموت.. هلّا أتيت إلى الفندق الذي نحن فيه؟
وقع قلب طارق أسفل قدميه! وشعر بالدنيا تميد به وهو يسمع قولي بأن بهاء يموت! 
وللأسف لم أكن حينها أعلم أن بهاء لا إخوة لديه ولا أعلم حال أمه ولو كنت أعلم لترققتُ في كلامي قليلًا!
ظلّ يقول كلامًا مضطربا بلوعة الأبوة: كيف؟ أين المشرفون؟ ومن أين تكلّمني أيها الفتى؟
أخبرته بمكان الفندق، وأغلقت السماعة بارتجاف، يا له من موقف أتعرّض له!
ظللتُ بجانب بهاء الذي كان يحتضر، حقا.. ولم تأت تلك النادلة الكاذبة، يبدو أنها نسيتنا!
تذكرتُ أن بهاء فقد الكثير من المياه وهكذا ركضت نحو قارورة المياه الصغيرة في حقيبتي وسقيتُه.
بعد ساعتين فقط وجدت أحدهم يطرق الباب بقوةّ! 

يا إلهي هل هو والد بهاء؟ كيف جاء بهذه السرعة الرهيبة؟ لا شك أن سرعة سيارته تجاوزت المئتين!
فتحت الباب لأرى طارق والد بهاء، نظر إلي بدهشة 
لكوني صغيرًا هكذا وتسببتُ بمجيئه إلى هنا، قال بلهفة: أين بهاء؟
أشرتُ إلى سريره ففوجئت به غير موجود! شعرتُ بالورطة لأنه سألني بانفعال: أين هو يا بنيّ؟
في تلك اللحظة فُتح باب الحمام وظهر بهاء شاحب الوجه وهو يمسح فمه بمنديل، 
بمجرد أن رأى والده حتى اتسعت عيناه على أشدّها من المفاجأة، ركضتُ إليه وأنا أقول بفرحة:
 بهاء.. لقد اتصلتُ بوالدك لكي.. قطعت كلامي حين وجدت صفعة قوية تهوي على وجهي!
لم أستطع الوقوف مذهولاً، فقد قفز بهاء علي بانهيار صارخًا: لم فعلتَ ذلك؟
سقطنا على الأرض، ولكن بهاء فوق جسدي كان قد فقد قوّته، لقد ظلّ يبكي ودموعه تنحدر إلى رقبتي!
 لم يُكمل ضربه لي ولم أغضب أنا! كنت فقط متسمّرًا في مكاني مستغربًا بشدة.
أسرع طارق إلى بهاء وهو يحمله بحرص وهو لا يزال يبكي! هل يبكي من الألم؟!
 أم أنه يبكي لرؤية والده؟ ألهذه الدرجة والده يعذّبه؟ ربما يعاقبه عقابًا شديدًا..
 ولهذا غضب بهاء مني حين اتصلت بوالده!

وجدتُ ملامح والده هادئة جامدة بعد أن كانت منفعلة، إذن.. صدق ظنّي! إن والده يعذّبه بالضرب!
كان بهاء يبكي على صدر أبيه بدون توقف، وطارق يُربت على ظهره متنهدًّا بيد حانية،
لكن بكاء بهاء رغم كل ذلك أرعبني، فربما والده يفعل ذلك فقط أمامي ثم حين يخلو به يضربه.
كم هذا مخيف.. كم أنا مذنب، لو كنت أعلم ذلك لما فكرتُ بالاتصال به!
هدأ بهاء بعد مدّة بينما أنا أقف مشاهِدًا! 
أجلَس طارق ابنه على السرير برفق ثم سأله بابتسامة: بهاء.. ماذا أكلت اليوم؟
نظر بهاء إلى الأرض ليقول باستسلام أثار دهشتي: حلوى..
سأله والده بلطف: هل كانت مكشوفة؟
أومأ بهاء برأسه معترفًا بصوت منخفض: نعم..
تبعه السؤال: أنت تعلم لمَ يحصل لك كل هذا صحيح؟
لم يُجب بهاء هذه المرة وإنما دفن وجهه في ملابس أبيه دون أن ينطق بكلمة، ويداه ترتعشان..
فوجئت بوالده يمسح على ظهره برفق وهو يردد سورة الفاتحة ثم يقول بشفقة حانية: 
لا بأس عليك يا صغيري.. يا إلهي تبدو حرارتك عالية بالفعل!
يا إلهي، إنه لحد الآن لم يضربه ولا مرّة، بدأت أعتقد أن والده حنون جدا.
أشار إليّ بعينيه وهو يقول لبهاء في أذنه: من هذا الفتى الجيّد الذي معك؟
خرج صوت بهاء مكتومًا لكنه كان ثابتًا: إنه عثمان.. صديقي!
هزّ والده رأسه برضا وهو يقول: صديق وفي.. صديق رائع!
غمرتني سعادة صغيرة وخدّاي الصغيران يتوردّان.. 
تجاهلت الأمر حين قام واقفا وهو يقول: هيا بنا يا عثمان.. إلى المستشفى.
ركضتُ إلى حقيبتي وأنا أقول بهمّة: حاضر.
في السيارة كنت أجلس برهبة في المقعد الخلفي، مع بهاء الذي كان ممّددا بجانبي،
 كانت رأسه تستقر على فخذي.. وقد نام، أو فقد وعيه..
تحرّكت السيارة فبقيت أحدق في وجه هذا الطفل قليلا، وضعت يدي على جبينه الدافئ وأنا أفكر في داخلي: 
يا له من فتى محظوظ بوالده!

لو كنت مكانه لربما استقبلني أبي باللكمات والصفعات معبّرا عن غضبه أن أهملت في صحتي بتلك الطريقة!
قاطع والده تفكيري وهو يسألني بطريقة متفهمة جعلتني أشعر كما أنني في مقابلة وأن معلوماتي بالغة الأهمية،
 حدثته عن كل شيء.. أبدى ضيقه من تصرف المشرفين وقال إنهم من المفترض بهم أن يحدّثوه أولا!
قلت: إنهم لا يعلمون أن لديه تسمما في معدته، لقد ظنوا أنه يحتاج للنوم فقط! ولهذا السبب تركوه مع النادلة.
سكت والد بهاء، ثم وصلنا إلى المستشفى.
بعد إسعاف بهاء الذي لم تكن حالته خطرة أصلا فقد تخلّص من معظم الجراثيم بالتقيئ وغيره،
 وُضعت السوائل له، كان أبوه جالسا عن يمينه أما أنا فكنت واقفًا.
قال بهاء بتردد وهو يتهرب من عيني والده: آسف يا أبي.
قال طارق بهدوء: على ماذا؟
أجاب بهاء بدهشة: على أنني أكلت الحـ...
ابتسم أبوه بتلقائية قائلا: ولكنك قد نلتَ عقابك بالفعل!

سكت بهاء، لكن والده أكمل: أريدك أن تعتذر على تصرف أفظع فعلته!
احتار بهاء وهو يعيد آخر الساعات محاولا تذكر التصرف الفظيع الذي فعله؟!!
ثم قال بدهشة: هل يمكن.. على ضرب..
وافقه طارق ومطط من صوته: نـــــــــعم.. هذا صحيح!
نظر إلي بهاء نظرات مترددة خجلة، بينما أنا أحاول استنتاج معنى محادثتهم.
قال طارق مشجّعا: عليك الاعتذار، ولكن ليس لي.. وإنما له!
 كان من الفظيع أن تقوم بضربه لأنه أبلغني.. أكنت خائفا مني يا بهاء؟
قال بهاء بخجل نادم: لا.. ولكنني لم أحب أن تعرف عني سوءا يا أبي،
 لذلك غضبتُ منه حين اتصل بك، ولكنني أعرف أنه محق...!
ثم رفع رأسه لي بعينين حساستين صافيتين قائلا: هل ستسامحني يا عثمان؟ أنا آسف!
ارتكبتُ وأنا أقول: آه بالتأكيد يا بهاء، هذا لا شيء.
يومها عُدت للبيت معهما، نام بهاء في الطريق بسبب تعبه،
 أما أنا فكنت يقظًا أسمع ذلك الترتيل الشجيّ الذي يتسلل إلى أذني برفق من مسجّل السيارة.
أوصلاني إلى المنزل بعد أن وصفت لطارق الطريق بمهارة أثارت إعجابه، 
وشيّعني بابتسامة شاكرة ممتنة، سحبت حقيبتي التي كانت بجانب بهاء المستغرق في النوم،
 وترجّلت من السيارة بهدوء، ظلّ طارق في سيارته يراقبني حتى فُتح لي الباب ودخلت، ثم انطلق.
_

بعد أن نزل ذلك الطفل المثير للإعجاب من سيارتي، ألقيت نظرة على ذلك الصبيّ النائم!
ضحكت في داخلي على هذا الشغب الذي يثيره كل يوم،
 وابتسمتُ بشجن وأنا ألمس خدّيه الدافئيْن وأحمد الله في داخلي على سير الأمور بهذه الطريقة،
 بمجرد اتصال عثمان بي وأنا هائم على وجهي أقود سيارتي بسرعة مجنونة حتى أخذت مخالفة في الطريق!
 آه.. الحمدلله، لقد تعبتَ كثيرًا اليومَ يا بنيّ!
شهقتْ غدير بخفة كعادتها وهي ترى بهاء الصغير نائمًا على كتفي، قالتْ بدهشة واستغراب: لماذا عاد قبل وقته المحدد؟
ابتسمتُ وأنا أضعه في سريره: لقد تعب فذهبتُ لإعادته.
تأملتْه بخوف وهي تسألني: تعب؟ ما نوع التعب بالضبط؟
ضحكتُ ضحكة خفيفة، فأنا لم أُخبرها بأي شيء منذ ذهابي إليه،
 لو فعلتُ ذلك لأثرتُ قلقها بدون داعٍ ولَسقطتْ هي أرضًا بدلًا من ابني.
جلستْ بجانبه وهي تنظر إلي بحنق حيث أنني لم أُجب سؤالها الأخير،
 شمّته بحذر من عدّة أماكن فقلت بضحك: ماذا تفعلين؟ يبدو تصرّفك كنوعٍ من الحيوانات الذين يقتفون أثر الروائح!
لمحتُ ابتسامة خفيفة تظهرْ على وجهها، لكنها سُرعان ما اختفت وهي تتحسس جبينه وتقول لي بهلع:
هل كان مريضًا؟ لقد تقيّأ؟ هل كنتَ تُخفي عني ذلك؟
قلتُ بدهشة: ما شاء الله، كيف عرفتِ أنه تقيّأ؟ لقد حرصت على مسح جميع الآثار من ملابسه!
قامتْ من مكانها مصدومة واقتربت مني بانهيار: إذن لقد كان مريضًا وتقيأ أيضًا، لمَ لمْ تُخبرني؟ طارق؟! ماذا جرى له؟ أخبرني الحقيقة!
دلّكت شعري وأنا أحس بالورطة، أم بهاء صعبة جدا في الاستجواب!
نظرتْ إلي فجأة واتسعت عيناها: هل من الممكن أنه فاقد للوعي وليس نائما؟ هل من الممكن أنه ميّـ...
قاطعتها بقوة وهي تسرح في خيالاتها المرعبة: لا يا غديري، إنه نائم فحسب، بإمكانك أن تتأكدي من تنفسه المنتظم.
نظرتْ إليه بقلق ثم تقابلتْ نظراتنا، يا إلهي، ما هاتان العيْنان اللتان على وشك الانهيار؟!
 يجب علي أن أطمئن هذه الخائفة سريعًا..
ابتسمتُ وأنا أمسك يديها قائلا: تعاليْ أخبرك بنوع المصيبة التي فعلها ابننا المشاغب اليوم.
_

وهكذا أول ذكرى كانت لبهاء وطريقة تعارف هذين الصديقين ❤️


ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم