أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء السادس عشر)

رواية أنا أكرهكم


(16)


 كانت تحاول الصمت ولكن يبدو أنني حين سألتها.. أخرجت كل طاقتها في البكاء..
وأنا أمامها لا أفهم شيئا!
قلت بلطف: ما الأمر؟ اهدئي.
قالت باكية غاضبة: أبي سيتزوج!
قلت مندهشا: سيتزوج؟ حسنا.. الأمر ليس بهذا السوء، ولا يستحق كل هذا البكـ..
قاطعتني بألم: ولكن هذا معناه أنه سيحب امرأة غير أمي وسيهتم بها أكثر مني.
قلت لها: كيف عرفت بذلك؟
أطرقت برأسها وهي تقول:
لقد خرجتُ إلى بثينة لألعب معها بعد أن تعبت جدتي ونامت في غرفتي، وذهب أبي للعمل، 
عدت مع أبي إلى المنزل فأخبرني أنه سيوقظ جدتي لصلاة المغرب..
 لكنه مكث معها طويلًا، أردت أن أدخل عليهما لكن..
سمعت حديثهما، لقد كانت جدتي تمدح امرأة ما وتحثه على الزواج منها لكي تعتني به وتعتني بي..
 لقد قالت له أن عبير تحتاج أمًّا!

ثم قالت باكية بعصبية: 
لكنني لا أريد أمًّا جديدة، لا أريد لأبي يتزوج! وإذا كان هو يريد من تعتني به فأنا سوف أفعل!
ثم قالت بانكسار:
 أمي ماتت من سنتين فقط! كيف ننساها سريعًا هكذا؟
وبدا لي أنها ستنهمك في نوبة بكاء جديدة، تنهدت وأنا أشاهد وجهها لأول مرة يبكي بمرارة..
حاولت أن أهدئها، قلت بحيرة:
حسنًا عبير، أعلم أنه.. ربما الأمر قاسي أن لا تمتلكي أمًّا..
 وربما الأمر قاسي أيضا أن تمتلكي أمُّا سيئة.. وربما.. آه..
 أنا لا أفهم جيدًّا في مواضيع كهذه، لكن والدك شخص جيد سوف يفهم أنك لا تريدين أمًّا..
عبستُ حين وجدتها تُكمل بكاءها، يبدو أن كلامي لا يؤثر!
فجأة فُتح باب غرفتها وخرج منه الدكتور بكر، كان مُرهق العينين جدا ويبدو عليه الهمّ!
لكنه بمجرد أن لمح جسمين جالسين على أرض الصالة اقترب مُسرعًا، فتح الضوء، واقترب من عبير بفزع،
 سألني بقلق وهو ينظر إليها تُخبئ رأسها: ما بها يا بلال؟
عقدت حاجبيّ وقلت بعدوانية: إنه أنت السبب..
نظر إلي بصدمة ثم قال لعبير بانكسار: أنا السبب؟ ماذا فعلتُ يا عبير؟
رفعت عبير رأسها وقالت منفعلة:
 ابتعد عني يا أبي.. أنت ستتزوج امرأة أخرى غير أمي، وستُهملني كما فعلت قبل ذلك، هل تكرهني يا أبي؟
 لقد كنت تحب بلال كثيرا في الماضي وتهتم به عنّي، الآن هل ستحب تلك المرأة كثيرا وتُهملني..
بدا على وجه الدكتور بكر اكتئاب وإحباط شديد وهو يقول محاولًا الدفاع عن نفسه بيأس:
 أبدًا والله يا عبير.. لقد وعدتك، أن أعتني بك حتى أموت!
 لا تقلقي.. لن أتركك أبدًا.. لا داعي لكل هذه الدموع أرجوك.. قلت لك لن أتزوج..
 وإن فعلت فسيكون برضاك قبل أي شيء.. أما الآن وأنت غير راضية فلن أفكر في الأمر حتى!
ثم مسح على شعرها وهو يقول بحب: 
لن أفعل شيئًا لن ترضيه.. هيا كُفي عن ذلك.
قالت من بين دموعها متفاجئة: 
حقا؟ لن تتزوج إذا كنتُ غير موافقة؟ حقا يا أبي..
ابتسم لها بعمق: بالطبع.. لن أفعل إلا برضاك.
ظهر على وجهها سرور وهتفت وهي تمسح دموعها ثم ترتمي على أبيها: رائع!
همس في أذنها مازحًا: ولكن لا تُخبري جدتك وإلا قطّعتني.. فهي من أحضرت لي العروس!
ضحكت بخفوت وهي تقول: لن أخبرها.
ثم ابتسمت برضا: 
هل تعلم؟ لقد كنت أظن أنك ستتزوج امرأة شريرة ثم تعاملني بشكل سيئ 
كما فعلت تلك المرأة في قصة اليتيمان لعلي الطنطاوي، عاملت ماجد وأخته بشكل سيء.
 لقد جعلت والده يقطع له دفتر ذكرياته الأسود! 
أنا خائفة يا أبي أن تقطع لي زوجتك دفتر ذكرياتي.. لا أريده أن يتقطع!
وقف على قدميه ضاحكًا وهو يقول مخففا:
 لا.. ليس كل زوجات الآباء شريرات مثلها، كما أنني لن أسمح لأي حد أن يؤذيك..
نهضت معه وهي تقول بخوف:
 ولكن لقد كان أبو ماجد يعامله بلطف قبل أن تأتي، وهي من وشت بينه وبين أبيه وأفسدت العلاقة بينهما.. 
أبي لا تتزوج أبدًا..
تنهد الدكتور بكر وهو ينظر إليها نظرات مهمومة ثم ابتسم إلي قائلا وكأنه لأول مرة ينتبه إلى وجودي:
 بلال.. هل نمت جيدًا؟
أومأت برأسي في برود، ونظرت إلى يده الممتدة ليُساعدني على القيام...!
هل أقبل؟!!
هتفت عبير وهي تمد يدها بدلا منه: 
لا إنه هو من جلس بجانبي ليواسيني.. أنا من سأساعده على القيام..
ثم امتدت يدها بطريقة طفولية، نظرت إلى يدها الصغيرة، ثم وجهها المتبسم وعينيها السوداويتين
 ورموشها المبللة من الدموع ثم شعرها البني المضفور ورائها دائما، والدكتور بكر واقف بجانبها يتأملنا..
جئت لأمدّ يدي أخيرا لأقوم، وحين وقفتُ بمساعدتها شعرت بقلبي ينقبض فجأة، خطر أمامي رقية!
رقية التي كانت آخر مرة قابلتها فيها تبكي...!
 يا إلهي، لماذا أشعر بضميري يؤنبني كثيرا؟
 على كل حال إنها في رعاية أمي وأبي اللذان لم يبقى لهما غيرها فيجب إذن أن يعتنوا بها جيدًّا!
قطع تفكيري خروج شخص من غرفة عبير، كانت جدتها -_-
نظرت إلينا وهي تقول بعجلة وتمسك بيدها هاتفا:
 بكر.. لقد ولدت جارتي قبل ساعتين مولودًا.. إنها الآن في المستشفى، ولكنها سـ..
ثم قطعت كلامها وهي تنظر لعبير بقلق: هل كنت تبكين؟
ابتسمت عبير قائلة: لقد كنت أشعر بوجع بسيط!
ظهر على وجهها الفزع وهي تقول: وجع؟ أين؟
قال بكر بهدوء: 
لا يا أمي، إنها بخير الآن.. لا تقلقي.. ماذا كنت تقولين عن جارتك؟
تنهدت أمه وهي تنظر لعبير ثم تقول:
 سوف تعود للبيت الآن، وبما أن هذا مولودها الأول فستحتاج مساعدتي كثيرًا.. لذا يجب أن أعود..
قالت عبير بحزن:
 لا.. اجلسي معنا يا جدتي.
ابتسمت جدتها قائلة: 
في مرة قادمة، تكونون أنتم من تأتون وسأريك المولود الصغير يا حبيبتي.
ثم بدأت في ارتداء حجابها بعجل وهي تقول: بكر هيا تجهز.
دخل الدكتور بكر الحمام مغمغا: حسنا ها أنا ذا.
بعد ثوان، كان بكر يفتح الباب، أمه تمسك عبير وتحتضنها وتقبلها وتقول لها تحثها: 
هيا أصّري على أبيك حتى يأتي بك إلي في المرة القادمة.
ثم مرتّ علي قائلة: هيا بلال ألن تسلم علي؟ أم أنك غاضب مني؟
قلت بهدوء: لا.. لا بأس..
تراجعت إلى الخلف في حذر وهي اقتربت قائلة بنشاط: حسنا أنت مثل ابني..
ثم قبلتني على جبيني سريعا وهرولت مع بكر الذي نظر إلي بوجه ملوّن من الإحراج، وأشار إلي أن لا أهتم!
لكن.. ما حكاية هذه العائلة؟ هل يحبون أن يقبّلوا جبين الناس كثيرًا! -_-
تبَا لك أيتها العجوز.. كم كرهتك..

_

" بلال.."
حاولت فتح عيني بصعوبة، كان وجه عبير يقُابلني، بحجابها، بزيّها المدرسي، ومازالت ترتدي حقيبتها..
ابتسمت بلطف قائلة: لقد نمت على الأريكة.. تبدو مُتعبًا.
حاولت التذكر، ماذا كنتُ أفعل؟
وبمجرد أن لمحت دفتري بين يديها حتى قمت بقلق وقلبي ينبض بعنف، قلت وأنا آخذ دفتري منها:
 لا تُمسكي دفتري ثانية! إياك!
أخذته من يدها وأنا أسحب القلم من حجري وأحاول أن أُخفي الانفعال الذي بدا في داخلي حين لمحته في يديها، 
ماذا كان سيحصل لو كانت فتحته؟
 سينهار كل كبريائي أمامها.. تبًّا.. لماذا نمت وأنا أدرس؟
جلست بجانبي ثم قالت بخبث ضاحك: 
لقد كنت نائما وفي حجرك الدفتر والقلم.. هل كنت تكتب ذكرياتك؟
قلت ببطء وأنا أعقد حاجبي: آه.. نعم ذكرياتي.. لهذا أريدك ألا تتطلعي عليها..
قالت برضا: نعم.. لن أتطلع عليها لأنني أيضا لا أريد لأحد أن يقرأ مذكراتي..
ثم ضمت يديها بحماس وهي تقول: 
آه هل أنت جائع؟ كم أنا جاائعة، لقد ذهب أبي ليُحضر الطعام من أم عبد الله..
بعد ثوان دخل الدكتور بكر وهو يحمل الأكياس ويتجه إلى المطبخ هاتفا:
 عبير.. هيا بدّلي ملابسك قبل الغداء..
قفزت وهي تقول بحيوية: حاضر يا أبي..
ثم نظرتْ لي نظرة أخيرة وهي تقول بسرور: أتعلم يا بلال.. عمتي اليوم ستأتي لزيارتنا، أنا سعيدة.
عقدت حاجبي في اكتئاب، يا إلهي.. امرأة أخرى من عائلة الدكتور بكر؟ ماذا ستفعل هذه المرة؟
أعتقد أن علي حبس نفسي في الغرفة!

_

بعد الغداء كان الدكتور بكر يبحث عن كتاب ما في مكتبته الصغيرة، 
كنت أراقبه بتمعن وقلبي يخفق باضطراب، لقد أعددت خطة بالأمس،
 بما أنني استطعت أن أتهجأ الأحرف وأفهم الكلمات البسيطة، بإمكاني اختيار كتاب ما من خلال قراءة عنوانه.
اقتربت منه باضطراب وتوقفت خلفه، التفت لي بهدوء قائلا بابتسامة: بلال.. هل تريد كتابًا أخيرا؟
أومأت برأسي في توتر، فسحب كتابا من مجموعة كتب مرصوصة على الأرض
 وجلس على الأريكة وهو يقول بهدوء: تفضل اختر ما يُعجبك..
تقدمت بأطراف مرتجفة، آه لو يعلم أن قلبي الآن قد نزل في معدتي!
لقد مرت خمسة أيام منذ بدأت تعلم الأحرف، وقد أتقنت الهجاء جيدًّا، 
رحت أبحث بعيني سريعا عن كتاب بسيط يمكنني فهم عنوانه، وأخيرا وجدت بُغيتي..
 لقد كان الأرنب والأسد! اممم هل يبدو كتاب أطفال؟ هل سيضحك علي الدكتور بكر إذا اخترته؟
 هل عليّ أن أختار اسمًا آخر يدل على الرقي؟
تنهدت في حيرة، كانت يدي ترتجف وهي تلمس الكتاب وعيني تتهجأ عنوانه..
ثم قرأت عنوان كتاب يبدو للكبار أكثر، لقد كان "أحلام المساء"
 حسنا العنوان غير مفهوم، لكنه لا يبدو قصة أطفال أبدا، كما أن حجمه كبير وأوراقه كثيرة.
أخذته وأنا سعيد مبدئيًّا أنني اخترته، جلست على السرير بهدوء وأنا آخذ نفسا عميقا وأفتح الكتاب،
 يا إلهي، فوجئت أن في غلافه رسومات كرتونية! تبًّا.. ماذا يقول الدكتور بكر عني الآن!
شعرت بجبيني يفرز العرق غزيرًا،
 حاولت السيطرة على مشاعري وأنا أشاهد الفهرس به مئة قصة للأطفال يحكيها الآباء لأبنائهم قبل النوم! 
هكذا إذن.
ابتلعت ريقي في ارتجاف، وأنا أتمنى بكل قوتي ألا يعرف الدكتور بكر اختياري في هذا الكتاب،
 انتفضتُ عندما سمعت صوته ينادي: بلال..!
نظر إلي بدهشة عندما شاهد انتفاضتي وأنا مصفر الوجه!
نظر إلي بقلق ودهشة مغمغما: هل أنت بخير؟ ما به وجهك؟
ابتلعت ريقي بسرعة وأنا أضع الكتاب على الخزانة وأخفي غلافه ثم أقول محاولًا التماسك: 
لا شيء.. متعب فقط.. سأنام!
نظر إلى الكتب المرصوصة أسفل المكتبة وقال بحيرة:
 أوه حسنا، متأسف أن أخرجت الكتب هكذا، سوف أعيدها بمجرد أن ترتاح.. ولكن أودّ محادثتك قبلا.
 حاولت أن أستلقي على سريري وخبئت نصف وجهي بالغطاء ثم قلت بحذر: حسنا.. ماذا تريد؟
نظر لي محاولا إخفاء علامات الاستغراب من على وجهه بسببي، ثم قال بتردد:
 آ..لقد بقي لك بضعة أيام وتفك جبس يدك.
قلت بهدوء: عندما يحين الوقت سأذهب معك.
تهرّب بنظراته مني قائلا: ليست هذه القضية وإنما.. أريد شراء حذاء لك!
حملقت فيه بجمود وأنا أزيح بقية الغطاء عن وجهي وأقول: لم؟
ابتسم بتوتر قائلا: 
بلال، أتمنى ألا تفهم هذا بشكل سيء، لكن يجب أن ترتدي الحذاء وأنت ذاهب لفك الجبس، 
ثم ترتديه بعدها ونحن ذاهبين للعمل.. وأنا ليس لدي حذاء مناسب لمقاس قدميك،
 ربما لدي بعض الملابس تصرفتُ بها في الفترة الماضية لكن الحذاء شيء مختلف..
تذكرت شيئا، الناس الطبيعيين كانوا يرتدون الأحذية، علي أن أظهر له أنني طبيعي وسأشتري الحذاء بشكل عادي..
 تنهدت وأنا أقول: 
حسنا.. لا بأس.. متى سنذهب؟
ظهرت علامات دهشة على وجهه لكنه أخفاها بسرعة وهو يقول بسرور: غدًا صباحًا.

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم