أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الخامس عشر)


رواية أنا أكرهكم


(15)


دخلت عبير في مرح ضاحكة وهي تهجم على أبيها الذي فتح لها الباب، وتتعلق برقبته صارخة: ماما بكر!
ضحك بكر بشدة وهو يقول مستنكرا: ماذا ماما؟ أنا بابا..
أكملت عبير ضحكاتها قائلة في شغف: ولكنك من صنعت الغداء اليوم، لذلك سوف تكون ماما.
تركها بكر جانبًا وهو يضحك بقوة على ابنته المشاغبة ويرحب بعبد الله وبثينة الذين دخلوا بعدها..
 كان عبد الله هادئا.. يتحاشى النظر لبكر، لكن الذي لا يعلمه أنه قد نسي ما حصل بسبب تحسن نفسية بلال،
 ذهبا هما الاثنان إلى المطبخ لبدء تحضير الطعام.
ظلت عبير تدور في المنزل وتضحك وهي ماتزال بزي المدرسة ووراءها بثينة تلحق بها،
 دخلت غرفتها وخلعت خمارها وحقيبتها وكذلك بثينة، ثم أكملتا ركضهما، وعبير تقول لها بحماسة: 
سأريك بلال الذي أخبرتك عنه..
ثم فتحت باب غرفة بلال ووراءها بثينة بترقب، ثم قالت بخيبة أمل: نائم!!
كانت الغرفة مظلمة كما العادة وضوء شمس الظهيرة يتسلل ليملأ الغرفة في خجل، 
وبلال ينام على جانبه الأيمن في سلام، ابتسمت عبير وهي تهمس لبثينة: هذا هو..
قالت بثينة ضاحكة وهي تهمس: إنه يبدو وسيما وهو نائم.. أهو كذلك حين يستيقظ؟ أم أنه يكون وحشا؟
احمّر وجهها وقالت مدافعة: إنه وسيم في كل الأوقات..
فوجئت بأبيها من خلفها يضع اصبعه على شفتيه هامسا: هششش..
ابتسمتا في شغب وهو يشير لهما إلى الخارج، ذهبتا متسللتين وهما تكتمان ضحكاتهما،
 وابتسم بكر أيضا في هدوء وهو يغلق الباب.. إنه مطمئن أنه لن يحدث صدام بين أحد الآن!

_

استيقظتُ بعد العصر بوقت طويل،
 استنتجت ذلك من ضوء الشمس الذي بدأ بالاختفاء والتحوّل للون برتقالي محمّر..
فُتح الباب، هل يستطيع أهل هذا البيت أن يتوقعوا موعد استيقاظي بهذه الدقة؟!
كانت عبير هاتفة بمرح: أخيرًا استيقظت، لا شك أنك جائع الآن..
أومأت برأسي في سكون، بعد الطعام، بدأت عبير في قراءة بعض الكتب لي،
 كنت أستمع بهدوء وأنا أشرب الليمون الدافئ، لقد أمسيت أتقبل هذه الفتاة أكثر عن ذي قبل.
مرت الأوقات سريعة رغم الملل، استيقظت في اليوم التالي ولحسن الحظ لم يكن عبد الله موجودًا في الإفطار، 
فقد عادت أمه إليهم من سفرها، ذهب الدكتور بكر إلى عمله وعبير إلى مدرستها، وأنا اعتكفت أمام التلفاز،
 في يدي قلم وعلى حجري دفتر، هدية عبير..
 وبدأت بتشغيل القناة، ثم ابتسمت بترقب وأنا أتعلم الأحرف وأحاول تقليد رسمتها في دفتري.. 
كنت متحمسًا جدا..
شعرت بقلبي يدق دقات سريعة وأنا أتمكن من قراءة أول كلمة لوحدي.. أسد.
ظللت حتى الظهر وأنا في تعلم مستمر.. 
نظرت إلى الساعة، كانت على وشك أن تأتي الثانية عشرة ظهرا، 
أغلقت الدفتر سريعا ومضيت لغرفتي أخبئه في الدرج.. 
لن يسرّني أبدا أن يعرف الدكتور بكر أو تعرف عبير أنني أتعلم حروف الهجاء!!
شعرت بالإرهاق بسبب استيقاظي وقتا طويلا كهذا من الفجر إلى الآن، 
حركت جسدي وأنا أتثاءب، وفزعت بصوت غريب يشبه رنين هاتف..
نظرت حولي في حيرة ووجل، هذا ليس جرس المنزل حتما.
ذهبت إلى الصالة حيث كان الرنين مستمرا، انتبهت إلى الهاتف، 
رفعت السماعة بتردد، وضعتها على أذني وسكتت..
سمعت صوت الدكتور بكر قائلا: بلال؟
خرج صوتي مبحوحًا: نـ.. نعم؟
قال بلطف: هل بإمكانك أن تفتح الباب لـ عبير إذا طرقت الباب؟
 فأنا في طريقي إلى المنزل الآن ولكن يبدو أنها ستسبقني!
استغربت كثيرا، ألم يكن هو من يأتي بها من المدرسة؟
"بلال.. هل أنت معي"
قلت بسرعة: آه نعم بالتأكيد.
قال بحيرة أخيرا: 
في الحقيقة لقد اتصلت بها وأخبرتها أن تأتي لوحدها مشيًا..
 فعلى كل حال مدرستها قريبة وغالبًا ما تذهب إليها مشيًا.
انتظرت أن يقول شيئا آخر فأنا لا أحسن المجاملة، ولم أفهم أيضا لماذا تأتي اليوم وحدها؟ فقال: 
حسنا يا بلال.. هل تفتح لها؟
_نعم.
_حسنا إذن إلى اللقاء..
أعدت السماعات، وسمعت طرقا على الباب، يا لسرعتها!
بمجرد فتحي له حتى وجدت جسما صغيرا يقفز ويصطدم بي، تراجعت إلى الخلف عابسًا، غمغمتُ باستياء:
 ما بك؟ أنت تزعجينني.
رفعت عبير وجهها في فرح قائلة:
 آسفة.. لكنني سعيدة جدا لأنك فتحت لي الباب ^_^ .
أبعدتها برفق وأنا أستدير لأجلس على الأريكة قائلا: 
حسنا وماذا لو فتحت لك الباب؟ هل أكون بطلًا خارقًا؟
ضحكت بشدة وهي تغمض عينيها وتجلس على الأريكة بجانبي.. يا لها من مزعجة حقا!
سألتها بجدية: لماذا جئت اليوم وحدك؟
ابتسمت في شوق وهي تضم يديها الاثنتين إلى بعض وتقول بلهفة:
 لأن جدتي اليوم قــــادمة إلينا، أبي ذهب ليأخذها من بيتها.
صرخت بذهول: ماذا؟ أمـــــــــــه؟؟
قالت بخوف: ماذا بك؟
قلت ضاحكًا بسخرية: هل لديه أم؟
قالت مبتسمة: بالتأكيد، إنها جدتي، إنها تحبني كثيرا، وسوف تحبك بالتأكيد عندما تراك.
قلت ساخرًا: لا أريدها أن تحبني.. أريدها أن تكرهني.
اتجهت إلى غرفتي وعبير تسألني بقلق: ماذا ستفعل؟
قلت بجمود: اطمئني لن أحرق نفسي، سوف أنام فقط!
قالت بخيبة أمل: ولكن.. جدتي!
تركتها ودخلت إلى سريري، فوجدتها تتبعني، وفمها يتقوس للأسفل، إنها على وشك البكاء -_-
قالت بعينين دامعتين وهي تمسك يدي وتشدها: أرجوك فقط قابلها، سوف تعرف كم هي حنونة!
قلت بلا اكتراث: لا أحب الأمهات الحنونات.
سمعنا صوت الباب يفتح بالمفتاح، نظرت إلي برجاء: أرجوك.. فقط تناول الغداء معنا ثم اخلد إلى النوم!
تنهدت، أعلن استسلامي أمامها.. يا إلهي لماذا لا أكون قاسيا أمام هذه الطفلة بالذات؟ إنه شيء محير..
وجدت الدكتور بكر يدخل ووراءه سيدة نحيفة ملامح وجهها جميلة، 
وتجاعيد جلدها توحي بكبر سنها حتى الخمسين، ترتدي خمارا خفيف اللون، 
على عباءة زيتيّة فيها ورود بنفس لون الخمار..
صرخت السيدة بفرح وهي تفتح ذراعيها: عبير حبيبتي..
ركضت عبير إليها لتستقر في حضنها ثم تدور بها، 
وتقبل وجهها ورأسها في لهفة وهي تقول بضحكات متتالية في سعادة لا توصف:
 لقد كبرت وأصبحت رائعة الجمال.. اشتقت إليك كثيرا..
بينما كنت منشغلا بمشاهدة الموقف في برود أمام باب غرفتي، وجدت الدكتور بكر يُقبل إليّ ممتنا: 
أشكرك..
نظرت له ببرود، فزادت ابتسامته اتساعًا ومضى يحمل الأكياس إلى المطبخ، 
يبدو أنه الغداء الذي صنعته أم عبد الله.
شردت في الأرض وأنا أحاول تذكر ملامح أمي، لماذا كانت حنونة وغبية بنفس الوقت؟
 لماذا كانت تضمنا إلى صدرها بطريقة توحي لنا أنها لن تؤذينا أبدا؟
 ثم نفاجئ أنها هي من توافق أبي بكامل إرادتها على خططه الحقيرة لاستغلالنا..
 بل وتشجعنا على ذلك بمنتهى الحنان!
شعرت باكتئاب مؤلم بمجرد تذكر ذلك، ولكنني فوجئت بعبير تشد يدي قائلة: 
جدتي.. هذا بلال الذي حدثتك عنه!
-_- هل حدثت عبير كل أهل الأرض عني؟
تبًّا، فوجئت بجدتها تقترب وهي تقول بلطف فائق وابتسامة: هكذا إذن.. يبدو فتى ذكيًّا!
حاولت أن أنظر إلى الجهة الأخرى في سخرية شديدة، لكن.. فجأة..
أظلمت الدنيا أمام عيني، وطرقات قوية على ظهري!
لا لحظة.. لقد سحبتني تلك الجدة إلى صدرها وبدأت تربت على ظهري قائلة بحنان:
 سمعت أنك وحيد أيها الفتى.. لا تقلق كلنا جميعًا حولك!
يا إلهي لم أتخيل أن تفعل هذا أبدًا!
سعلت وأنا أشعر بألم بسيط في ضلوعي، أبعدتها بغضب، وهي نظرت بدهشة إلي، 
أسندت ظهري إلى الجدار وأنا أنظر إلى الدكتور بكر الذي عاد من المطبخ وعلى وجهه إحراج، 
وقال متلعثما وهو يحكّ جبينه بإصبعه: 
آه.. حاولي ألا تفعلي هذا يا أمي.. بلال كبير الآن..
نظرت لي باستغراب وتمعن ثم قالت باعتراض: إنه مازال طفلا يا بكر.. لا تعقد الأمور هكذا!
ثم تنهدت في حيرة وهي تبدأ في خلع حجابها،
 والدكتور بكر ينظر إلى عيني نظرة اعتذار مع ابتسامة مهوّنة.. 
نظرت له غاضبا ثم رحت أنظر إلى عبير التي قلدت جدتها هي الأخرى، وخلعت حجابها، بينما أمه تقول:
 بكر أما تزال عبير صغيرة على هذا الحجاب؟
قال بكر بهدوء وتفهم وهو يعود إلى المطبخ: لا يا أمي.. إنها تحبه..
بينما هتفت عبير في فرح: نعم أحبه يا جدتي.
تنهدت جدته في استسلام وقد ظهر شعرها الأبيض الناعم وقد سرحته إلى مؤخرة رأسها كـ كعكة..
لحظة، لقد قالت هذه العجوز شيئا عني، أنني طفل!
قلت باعتراض حاد: على فكرة أنا لست طفلا!
نظرت إلي في انتباه ودهشة، فعقدت حاجبي بغضب ونظرت بتحد لها.
اقتربت مني وهي تحدق في ملامحي بتركيز، تراجعتُ إلى الجدار أكثر بتوتر، ماذا ستفعل هذه المرة؟
فوجئت بها تقول بقلق وتوبيخ: بكر.. ما هذا؟
جاء صوته بعيدا: ماذا يا أمي؟
قالت تعاتبه بشدة: أهذا الفتى الذي تعتني به؟ إنه يبدو شاحب الوجه بشدة!

_

وقفت أمام باب المطبخ بغضب وهي تقول: بكر.. إنه أمانة في رقبتك!
 أين هي تلك العناية التي تحدثني عنها؟ 
انظر إلى وجهه فقط ستعرف أنه من شدة شحوبه سيفقد وعيه بعد قليل!
ثم دخلت المطبخ وهي تلتقط كوبا وبكر في غاية الإحراج وهو يقول بانخفاض لكيلا يسمعه بلال: 
أمي.. تذكري أن لدي عمل طول اليوم وكذلك هذا الفتى عنيد في العلاج!
قالت باقتضاب وهي تصب الحليب: 
إذا لم تكن قادرًا على العناية به فدعه لي، على الأقل يسلّي وحدتي.. أفضل من أن يموت بين يديك!
أطرق بكر رأسه في انكسار وهو يرتب أطباق الطعام، لقد تذكر كلمات مريم، همس لنفسه بمرارة:
 هل أنا سيء لهذا الحد في العناية بمن أحبهم؟
خرجت أمه بعد أن أخذت طبق عسل نحل فيه ملعقة صغيرة،
 وجدت بلال جالسا على الأريكة بجانب عبير التي كانت تعرض عليه بعض رسوماتها 
وهو يهز رأسه في إعجاب يحاول إخفاءه.
ابتسمت وهي تجلس بجانبه، فالتفت نحوها في عدائية، وعبير تقول:
جدتي جدتي.. انظري إلى رسوماتي..
قالت بلطف: بالتأكيد يا حلوتي ولكن بعد أن أفعل شيئا ما..
وجدها بلال تضع في يده كوب حليب فقال بقسوة: لا أريد!
ضحكت برقة وهي تمسك المعلقة فيها عسل النحل، وتقول بحزم:
بل ستفعل.. أنت لم تنظر إلى وجهك في المرآة!
قال بعصبية: من تظنين نفسك؟ لن أفعل!
كان بكر قد اقترب واقفا، قلق من تدخل والدته المفاجئ في حياة بلال،
 يعلم حنانها الذي يغمره منذ صغره ويغمر كل من حوله أيضا، لكنه يخاف أن يحدث مزيد من المشاكل.. 
وأمه بالتأكيد لا تدرك عقل بلال العنيد!
كان وجه بلال بالنسبة إليه مرهقا فقط، وليس شاحبًا وعلى وشك الموت كما تقول أمه!
 لكنه ربما قلب الأم الذي يشعر بما يعانيه الأطفال من معاني عيونهم فقط.
ابتسم من داخله ضاحًكا على بلال وهو يهتف بعناد: ابتعدي.. قلت لك لن أشرب!
وأم بكر تقول بعصبية هي الأخرى:
 هيا افتح فمك لتشرب بعض العسل، ثم بعدها ابلعه بالحليب، إنه العلاج الأنسب في مثل حالتك!
هز رأسه بتحد قائلا: لا.. لن أشرب.. أتفهمين؟
وهو يفتح فمه ليصرخ أدخلت الملعقة في فمه ضاحكة بمرح وهي تعيدها إلى الطبق لتحضر ملعقة أخرى،
 شعر بطعم العسل اللذيذ يخترق غدد التذوق لديه، ولكن الغضب اخترق صدره أيضّا!
ابتلع العسل بسرعة ثم صرخ: من تظنين نفسك أيتها العجوز؟
نظرت له بذهول، وعبير وبكر وقفا على أرجلهم من شدة الخوف، وبكر يقول برعب وتلعثم:
 أنا أنصحك يا بلال أن.. تعتذر سريعا لها، فالذي يقول عجوز عنها.. فإنها سوف..
فوجئ بلال بيد قوية تسقط على خده بعنف لتجعل رأسه يرتد إلى الخلف سريعا، 
وفي نفس الوقت أكمل بكر بانهيار وندم: سوف تصفعه على خده بقوه!
ثم صوتها الثائر: من تقصد بالعجوز؟ إنني في قمة شبابي أيها الوغد!
تبادل بكر النظرات مع عبير في قلق 
ثم نظرا في ترقب لبلال الذي نظر بذهول إليها وعلى وجنته احمرار شديد من مكان صفعتها!
_
 لم أكن أتصور أبدًا أن يقدر أحدهم على مدّ يده وصفعي على وجهي!! وبكل هذه السهولة!
لقد كانت صفعتها هائلة حتى دار رأسي منها، ولكن في نفس الوقت، سيطر علي الذهول..
وجدتها تقوم غاضبة وتغادر إلى المطبخ، هممت بأن أقوم ورائها لأرد لها الصاع صاعين!
فكبلني الدكتور بكر بتوسل وهو يقول برجاء: اهدأ يا بلال.. أرجوك لأجلي.. اهدأ فقط!
نظرت له بذهول ثم قلت بصوت متقطع: لقد.. صـفعتـني!!
أخذت عبير كأس الحليب من يدي ووضعته على المنضدة بينما تمسك يدي وتقول بعينين دامعتين:
 إنها تصفع كل من يقول عليها عجوزًا! أنا آسفة.. أرجوك لا تغضب!
بينما الدكتور بكر من جانبي الثاني يقول مهوّنا علي: 
أنا أعتذر بالنيابة عنها، بإمكانك صفعي أو ضربي عدة مرات، ولكن أرجوك لا تحاول إغضابها ثانية!
نظرت له بغضب، فأمسك يدي وشد عليها برفق هامسًا:
من أجلي أرجوك حاول أن تمسك أعصابك الآن!
ثم وقف أمامي متبسما وقبّل جبيني بهدوء، شعرت بوجهي يحمر سريعا من الانفعال!
وابتسم بهدوء ولطف ثم قال: 
إذا كان لي أي خاطر عندك.. فكن هادئا، أنا أعلم أن هذا صعب عليك، لكن.. هي أمي.. أرجو أن تتفهم هذا..
أشحت بوجهي المحمّر من شدة الإحراج والانفعال وأنفاسي تتسارع بعنف لم أستطع السيطرة عليه!

بمجرد أن ابتعد قمت مسرعا وعيون عبير تتبعني في وجل، دخلت إلى غرفتي وأغلقت الباب،
 ولا تزال في عيني نظرة الدكتور بكر الراجية..
حاولت أن آخذ نفسا عميقا لكي أهدأ فوق سريري لكنني فشلت مع تلك الآلام التي هاجمت صدري وتنفسي..
 آه يا إلهي، الأمس عبد الله واليوم أم بكر.. ماذا في الغد يا ترى؟!
بعد عدة دقائق كدت فيها أن أسترخي وأنام وجدت طرقات منتظمة على الباب، لم أرد،
 نظرت إلى الباب بوهن لأرى الدكتور بكر يدخل ببسمة وهو يقول متسائلا: ألن تقوم لتناول الغداء معنا؟
تنهدت بإعياء: لا أريد!
ثم حوّلت وجهي للجانب الآخر معلنا نهاية الحوار.
ولكنني وجدت الدكتور بكر قد دار حول السرير ووصل إلى الجهة الأخرى ليراني مغمض العينين فيقول مازحًا:
 ربما تأتي وتجرّك جرًّا للطعام!
قلت باقتضاب يُخفي غيظي مراعاة للدكتور بكر: سوف تجدني نائمًا!
فابتسم:
 ربما إذن تأتي بالطعام إلى هنا لنأكل إلى جانبك! إنها لا تقبل أبدا أن يتخلف أحد عن الطعام مع الجميع!
قلت ببرود:
 يبدو أنها مريضة نفسيًّا، لم لا تعالجها؟
فتحت عيني لأرى الدكتور بكر قد تجهم وجهه وهو يقول بحزن:
بلال إذا قال أحدهم عن أمك أنها مريضة نفسيًّا فهل ستسعد بذلك؟
قلت ساخرًا:
 ولكن أمي بالفعل مريضة نفسية، لم أحزن من الحقيقة؟
رفع عينيه بدهشة ثم قال برفق:
 بلال.. هل تعلم أن الناس الآخرين يحزنون كثيرا إذا سمعوا أحدا ما يقول ذلك عن أمهاتهم.
لم أعلّق، وغيرت وجهي للجهة الأخرى،
 فشعرت به يدور حول السرير مرة أخرى ثم يقف أمام وجهي ويقول ضاحكا وهو يضغط بإصبعه على أنفي:
 بلال.. هيا، هل تريد أن أحملك؟ هل أنت متعب؟
انتفضت منزعجا وأنا أقول: ما بالكم اليوم؟ هل تظنوني طفلًا صغيرا؟
ضحك ضحكة خافتة وهو يهمس: إذا علمت أمي أنك غاضب فربما تأتي لاسترضائك واحتضانك مرة أخرى!
غمغمت قائلا: يا للسخافة!
ثم عدلت وجهي ونظرت هذه المرة للسقف، ماذا سيفعل الدكتور بكر؟ هل سيتعلق به؟
بالفعل لقد تعلق به، أو يبدو أنه انثنى ليجعل وجهه في مقابلي وهو يبتسم ابتسامة لزجة.
قال وهو يزيل الغطاء عني: لن أدعك اليوم يا بلال.. بعد أن تأكل معنا سوف أتأكد من أنك في سريرك بنفسي..
قلت بعصبية وهو يقومني جالسا: يبدو أن هذا اليوم لن ينتهي، أف!
بدأت غصة تنمو في حلقي، إنهم لا يريدونني أن أفعل ما يحلو لي، إنهم يرغمونني مرة أخرى على القيام بما يريدون!
شعرت أنني متعب، وغاضب جدا في داخلي، نظرت إلى الدكتور بكر ثم قلت باكتئاب: أنا..
قال بصدق: آسف يا بلال.. أعدك لن يحصل أي شيء سيء في هذا اليوم!
سكتت ونظرت إليه بإنهاك.. فابتسم: ما رأيك أن يكون هذا من ضمن الثمن؟
لأول مرة شعرت بأنني سوف أستسلم أمام رغبته، ولكن بما أنه وعدني! سوف أوافق..

_

ضحكت أم بكر في مرح وهي تقدّم لقمة بيديها إلى بكر بعد أن قدمتها لعبير، كان بكر يقول بإحراج: أمي!
لكنه تناولها على الرغم من ذلك، وظلّا يضحكان معا ويتذاكران ماضيهما، 
كانت ذو شخصية قوية وتحب الدفاع بقوة عمن تحب، لكن بكر شخصية هادئة ومسالمة..
عندما جاء دوري لم أفتح فمي بل ظللت أنظر لها ببرود عابسًا، ما أزال أتذكر صفعتها لو هي تذكر! 
ليس بهذه السهولة أتراضى معها!
ضحكت وهي تُحني يدها وتضع اللقمة في فم عبير التي فتحت فمها على الفور بحماسة، ثم قالت لي تحاول إغاظتي:
 لن تفتح فمك، إذن لن تأكل من يدي!
قلت ساخرًا: هذا أفضل بالتأكيد..
كنت منشغلا بالأكل بينما أذني منشغلة بالإنصات لمحادثتهم.

كانت تتكلم كثيرًا عن الذكريات، والدكتور بكر يشاركها،
 وعبير تضحك بشدة على والدها الخجل من بعض الذكريات المشاغبة له!
كانت بعض الذكريات مضحكة فعلا ولكنني ابتسمت فقط وأنا أحاول تخيل الدكتور بكر طفلا صغيرًا 
متسخ الوجه ممزق الثياب من لعب الشارع!
سمعت الدكتور بكر يقول: ولكنني حقا يا أمي لم أجد أحدا بمثل حنانك وطيبة قلبك..
ابتسمت بامتنان، بينما أنا عقدت حاجبيّ.. قلت بتحد: أنا أيضّا لدي أم حنونة!
كان شيئا مضحكا جدا أن أفعل ذلك، ماذا أصابني؟
التفتت لي ولانت ملامحها وهي تقول بحنان: حقا وما اسمها؟
قلت بنفس ملامح التحدي: أمينة..
قالت بلطف: لابد أنها أم مضحية صبورة، وأنك تحبها.
لا أعلم لم أفعل ذلك، إنني أشعر بتفاهة شديدة لما أقوم به الآن..
ولكنني كنت أريد إغاظتها، أو إعلامها أن لدي شخصًا مثلها، رغم كذبي.
أمي وهي تمسكني لكي يقطع أبي يدي، تمسح دموعي بحنان، 
وحين كنت غائبا عن الوعي تمسك عدنان بدلا مني ليقطعها أبي! وتصبّره وهو يصرخ، هل أنا أحبها؟
قمت واقفًا باضطراب، هل أنا مجنون؟ ربما أنا مريض نفسي بالفعل والدكتور بكر يخدعني لكيلا أعتقد ذلك!
نظرت له نظرة معاتبة مترددة وأمه تقول بحيرة: هل شبعت يا بني؟ لم تأكل شيئا!
دفعت الكرسي ورائي وأنا أغمغم باكتئاب: لقد شبعت!
دخلت غرفتي ونظراتهم القلقة والمترقبة تطارد ظهري!

_

الظلام حالك جدا، لقد نمت حتى المغرب، قمت واقفا وحين خرجت من غرفتي وجدت البيت كله غارقًا في الظلام!
ماذا حدث للعالم؟
كان هناك ضوء بسيط صادر من الحمام، حاولت التركيز، صوت فتاة تبكي قريب مني!
شعرت بأنها عبير، عبير؟ عبير تبكي في مثل هذا الظلام؟ 
بعد ثوانٍ تعودت عيناي على الظلام ولمحت ذلك الجسم الذي يجلس على الأرض بجانب الأريكة ويحاول كتم صوته..
تحسست طريقي حتى جلست بجانبها بصعوبة، قلت باستغراب وقلق: عبير.. ما بك؟
كتمت إحدى شهقاتها وهي تنظر لي، قالت بخفوت: لا شيء..
قلت: لا تكذبي.. ما بك، هل حصل شيء؟
كانت تحاول الصمت ولكن يبدو أنني حين سألتها.. أخرجت كل طاقتها في البكاء..
وأنا أمامها لا أفهم شيئا!

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم