أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء العاشر)


رواية أنا أكرهكم


(10)


رحلة إنقاذ عدنان رحلة مليئة بالمتاعب.. الكثير من المتاعب، والألم!
بمجرد أن حصلتُ على المال، شرعتُ في عدّه لأكون على علمٍ بما معي من مال، فوجدتها خمسمائة جنيها!
إنه مبلغ مذهل بالنسبة لي، لقد اتسعت عيناي على أشدّها وأنا أخبئ المال في جيبي بحرص،
 ثم أركض إلى خارج قريتنا، إلى شارع رئيسي، لأكلّم أي سائق أجرة ليوصل عدنان إلى أقرب مستشفى.
لم تقف لي أي سيارة أجرة! وهذا حتمًا بسبب مظهري الرائع! الذي يُوحي لهم كم أنا غنيّ وشريف.
ولكن بعد نصف ساعة مريرة، وجدتُ أول سيارة أجرة تقف على مقربة مني!



رأى السائق الشاب هذا الفتى، أسود الشعر والعينين، رغم نعومة شعره فإنه كان مبعثرا متسخا، 
وعينيه الجميلتين بها الكثير من الكدمات والدموع، أما عن لون بشرته فقد كانت بيضاء، 
ولكنها لم تظهر بيضاء بسبب الوسخ والدم الذي لوثها بشكل مُقرف جعل السائق يتأكد 
أن هذا الفتى إما من أطفال الشوارع المتسولين، أو أنه خرج من حادثة رهيبة جعلته بهذا المنظر المُزري.

قرر أن يقف ليرى ما يريد هذا الفتى، أوقف سيارته،
 ثم انتظر حتى هرول إليه وأطلّ وجهه القذر من النافذة وهو يلهث قائلا: أيها العم. 
لديّ مريض في حالة سيئة للغاية وبحاجة إلى إيصاله لأقرب مستشفى.
عقد السائق حاجبيه باهتمام وهو يسأل: أين هذا المريض بالضبط؟
ابتلع الفتى ريقه ثم قال بصوت مبحوح مُتعب: 
إنه بداخل قريتنا، إنني لا أستطيع حمله، لذا عليك أن تذهب إلى بيتنا،
 ثم تساعدني في حمله، فليس هناك أحد يساعدنا.
فكّر السائق مليّا وهو ينظر إلى الفتى ثم سأله بسخرية: 
وهل تعتقد أن هذا العمل مجاني؟
بدأ الغضب يظهر في صوته قائلا: ماذا تقصد؟
فأفصح السائق قائلا بخبث: أعني أن هذه الأعمال تتطلب مالًا منك.. فهل تملك المال؟
فقال الفتى بحدّة: بالتأكيد معي المال، هل تظنني مغفلا؟
قال السائق بمزيد من السخرية: وكم مقداره؟ جنيهان؟
فهم الفتى أن السائق يسخر منه بشكل واضح، فتحولت لهجته إلى البرود قائلا: 
هل ستقبل إيصالي أم لا؟
فوجئ السائق بمدى الغضب والحدّة في عينيه البائستين، وشعر بخوف غريب في قلبه، فقال باضطراب:
 نعم بالتأكيد.. اركب...!
جاء الفتى ليفتح الباب ويجلس بجانبه، فقال السائق: 
لا انتظر قليلا..
توقف الفتى منتظرا، فانثنى السائق ليحضر من تحت قدميه كيسا بلاستيكيّا،
 ثم فرشه على المقعد، ثم ابتسم ابتسامة مزيفة قائلا: اجلس!

_

نظرتُ بصدمة إلى الكيس البلاستيكي الموضوع على المقعد، إن غرضه واضح،
 إن سيارته نظيفة جدا، ولا يريد أن أوسخها له!
لا أعلم لمَ رفعتُ نظري إليه، بنظرات باردة عميقة، تعرّق السائق منها في وجل وراح يقول بعصبية:
 لمَ تنظر لي هكذا؟ إنني أفعل هذا مع كل الزبائن!
لم أعلق شيئا، وجلستُ بهدوء، ثم قلتُ له بثبات: 
هيا سر إلى هذا الطريق..
ووصفت له الطريق، كنت لا أشعر بنفسي، لقد تنازلتُ عن كرامتي لأجل أخي عدنان،
 ولو كنتُ أملك من الأمر شيئا لانهلتُ عليه الضرب ومزقتُ ابتسامته الصفراء تمزيقا مروّعا يشفي غليلي.
وصلنا إلى البيت، طبعا لا أخفيكم عن نظرات القرف والسأم التي ظلّ ينظر لي بها مجرد أن رأى بيتنا،
 وتذمره من وعورة الطريق الذي كان طينيّا، ولكنني كنتُ أتجاهله تجاهلا مستمرا،
 خصوصا عندما قال لي بعصبية أنه سوف يزيد المبلغ إلى ضعفين.
نزلتُ من السيارة وقلتُ له: اتبعني.
فدخل ورائي حتى الصالة، ثم انثنيتُ إلى أخي عدنان الذي كان حاله كما كان،
 بل يزداد شحوبا يُحاكي شحوب الموتى!  ساعدني على حمله حتى السيارة، ثم انطلقت لأحضر منشفة مبللة بالماء،
 وأثناء ذهابي قابلتُ أختي رقية التي استيقظت للتو من نومها،
 ابتسمتُ لها وقلتُ مطمئنا: سآخذ عدنان إلى المستشفى..
هتفت في فرح: حقا؟ وانقضت عليّ مُعانقة وهي توشك على البكاء، 
أبعدتُها بلطف وخرجت لأجد السائق قد مددّه على الكرسي الخلفي بعد أن فرش عليه غطاء بلاستيكيًّا!
كظمتُ غيظي ثم ركبتُ في المقعد الخلفي، وأنا أمسح على وجه عدنان الساخن وأسمع السائق يقول:
أقرب مستشفى من هنا هي مستشفى "..." الخصوصية، هل أوصله إليها؟
قلتُ مؤكدا دون أن أهتم باسمها: نعم. وأسرع لأنه يموت!
لا أدري لمَ لمحتُ ابتسامة سخرية منه، تجاهلته ورحت أنظر إلى أخي المُسجى على المقعد،
 كان شحوبه يزيد شدّة، وقلبي يقع بين قدمي وأنا أراقبه طول الطريق!
 وضعتُ أذني على صدره لأسمع نبضات قلبه، يا ويلي.. 
لقد كانت دقات قلبه.. سريعة جدا.. جدا!
حاولتُ أن أفعل أي شيء، لكن لم يكن بيدي إلا أن أصرخ للسائق بانهيار:
أسرع قلتُ لك.. إنه يموت!
أومأ برأسه وراح يزيد سرعة السيارة، وأنا عُدت إلى وجه عدنان الحبيب، إنه أخي الكبير، 
الذي ساندني وعلمني ودافع عني مرارًا..
 فكم حاول أبي أن يفعل في أبنائه العديد من الجرائم، ولكن عدنان هو من كان ينقذنا.. 
هو من كان يحمينا من بطش أبي..
بل إنهم لما جلدوني، أخي عدنان هو الوحيد الذي ظلّ معي، يواسيني..
 كان حزينا لأنني أردتُ الانتحار،
 ليس لأنني بانتحاري سيخسر أحد أعضاء مجموعة التسول كما يعتقد أبي وأمي،
 وإنما كان حزينا لأنه لا يريدني أن أموت وأتركهم.

كان صديقا حميما لي، فعل العديد من التضحيات، فهذه ليست التضحية الوحيدة له،
 ولكنها التضحية التي قضت عليه دون أن يدري..
" بلال"
كان همسا ضعيفا انطلق من فم أخي، انتبهتُ إلى عينيه المغمضتين،
 إنه واعٍ، إنه يشعر بوجودي، هتفتُ: نعم يا عدنان. أنا بلال، بمَ تشعر؟ لا تقلق سوف..
قاطعني عدنان وهو يفتح جفنيه بصعوبة وأرى عينيه الغارقتين في التعب: أين أنا الآن؟
ابتسمتُ بعينين دامعتين مغمغما: لا تقلق، أنت الآن في سيارة أجرة ستذهب بك إلى المستشفى..
فهمتُ معاني الدهشة التي قفزت من عينيه، فبالتأكيد إنه لا يفهم كيف وصل إلى هنا؟
 فقد اعتاد أن يُرمى بلا اهتمام حتى ينقذه الله دون مساعدة من أحد.
فقال ساخرًا رغم ألمه: لقد حسبتُ أنني قد انتقلتُ إلى الآخرة، ولكنني وجدتك أمامي..
ثم سكت طويلا وأنا أنظر له بلهفة أنتظر ما سيقوله: 
أخبرني.. ما هي المعجزة التي جعلت أبي يقرر إرسالي إلى المستشفى؟
قلت: 
إنها ليست معجزة، لقد أقنعته بالمال، إن أبي شخص حقير قذر.
ثم ابتسمتُ له: كما تعلمه.
فغمغم بابتسامة مُرهقة:
 إذا كان قد أعطاك المال، فلا تتعب نفسك معي، المبلغ.. لن يكفي، 
ولن يعطيك مبلغا آخر، لذا خذه وغذي نفسك جيدا واشتري بعض المعاطف فالشتاء قد بدأ، واهتم بإخوتك.
وقع قلبي، المبلغ لن يكفي، قلتُ مصدوما: 
ما الذي تقوله يا عدنان؟ المبلغ سيكفي.. وستتعالج به، لن تموت، أسمعت؟ لن أسمح لك بالموت أبدًا.
ابتسم ساخرًا على قولي، فجئت لأهزه منهارًا:
 معي 500 جنيه، سوف تكفي.
نظر عدنان إلى عنينيّ المنهارتين نظرات شاردة، ثم أغمض عينيه هامسًا:
 حسنا.. سوف تكفي.. لن أموت.

_

بدأ صدري يعلو ويهبط بسرعة وأنا أجد السائق يقف عند مقربة من مستشفى خاص،
 وبالتحديد عند قسم الطوارئ، ثم ننزل ونحاول إيجاد نقّالة، كان منظري مُزريا،
 لهذا كان كل من في المستشفى الخاص ينظر لي باستنكار شديد، 
ولكن هذه هي أقرب مستشفى لقريتنا! تبا لهم..

حصلت الأحداث بسرعة لم أشعر بها، وتم الكشف على عدنان ثم وضعه في قسم الحالات الحرجة،
 وقد قال لي الممرّض الذي خرج من غرفته لتوّه ببرود:
 المريض مصاب بتجرثم الدم، لقد تلوث دمه بجراثيم خارجية عن طريق الجلد، 
يبدو أن حادثة قطع يده التي حصلت مؤخرا هي سبب ذلك، 
ولكنه الآن محتاج إلى العناية المركزّة، اذهب لدفع حسابه ثم تعال ثانية.
 سألته في لهفة: هل يمكنني رؤيته؟
فأجاب وهو يمطّ شفتيه: 
لا، للأسف عليك الدفع أولا.. فنحن في مستشفى خاص هنا.
كنتُ قد دفعتُ للسائق ثمنه الذي اختلفنا عليه كثيرا، فقد كان يريد استغلالي..
 لكنه شعر بالرعب من نظراتي المهدّدة له فاقتنع بمبلغي أنا ورضي بالأمر الواقع.
ثم جاء وقت الدفع للمستشفى، والصدمة الكبيرة على قلبي.. أنهم طلبوا مني دفع ألف مقدما. لحظة! 
أنا معي خمس مئة فقط، ودفعت مئة للسائق.. ثم.. ما معنى مقدما هذه؟
تبلدتُ أمام تلك الموظفة التي قالت لي بلا مبالاة: 
عليك الدفع مقدّما على الأقل، لكي تتمكن من رؤيته، لو شفي، 
فإنه عليك دفع المبلغ كاملا لكي يخرج من المستشفى.
ثم قالت:
وإن كنت لا تقدر على الدفع، كما أرى أمامي الآن..
 فإن على المستشفى أن تحتفظ بالمريض أو بالأصح تحبسه لديها حتى تدفعوا مستحقاته كاملة، 
وكل يوم يجلسه هنا يزيد من المبلغ.
قلت بلهفة: سأدفع 400 جنيه مقدّما.. هل يصلح ذلك؟
عقدت حاجبيها في استنكار، ثم أبعدت نظرها عني: 
حسنا، أعتقد ذلك، ولكن عليك أن تسرع بجلب الباقي..
لم أر الطريق الذي أسير فيه وأنا أقفل راجعا، هائما على وجهي. 
ماذا أفعل؟ كيف أحضر المبلغ الباقي؟
علي أن أسرق إحدى الخزنات!

_

طرقات هادئة على باب غرفتي، التفت إليها، قلتُ: من؟
فأجاب: هل بإمكاني الدخول يا عزيزي بلال؟
تنهدتُ واعتدلت لأجلس على السرير، ثم قلت: نعم يا دكتور بكر.
دخل إلي متبسما، ثم فتح الضوء مستأذنا بأدب: 
أعلم أنك تريد النوم. لكن أود رؤية المكتبة الصغيرة هذه.
لم أقل شيئا وأنا أنظر إلى أرضية الغرفة ساهما، فقد كنت أفكر في كل تلك الأحداث الرهيبة التي عشتها.
وأقارن بيني وبين نفسي مقارنة سريعة.. 
كيف يعاملني الآخرون فيما مضى؟ وكيف يعاملني الدكتور بكر؟
لا أعلم. لمَ أشعر بأنني لا أكرهه مثل ما أكره كل الأشخاص الباقيين؟
إنني أعلم أن علي كرهه، حتى لا أتعلق بأحد.
 التفتُ إليه وتأملته وهو يبحث باهتمام، ويتصفح عناوين الكتب، عيناه العميقتان،
 يُخبرانني عن نوع جديد من الأشخاص لأول مرة ألتقيه.
التقيت قبل ذلك أبي، الجشع الطماع القاسي، 
وأمي، توافق أبي على كل شيء بابتسامة ورضا وتحاول أن تقنعنا برفق، 
التقيت إمام مسجد قريتنا، الذي كان يغضب كلما رآني ويقول: لماذا تسأل الناس؟ فلتسأل الله! ولا أفهم جملته..
 كيف أسأل الله؟ كيف أطلب منه مالا؟ بل كيف يعطيني؟
ربما هو متضايق أنه يراني ذليلا ولكن لم يكن بيدي ذلك، فأبي هو من أرغمنا على التسول!
 المهم أنني كنت أكرهه، أكره جميع الناس في قريتنا.
على كل حال، كانت يد الدكتور بكر المصابة مضمدة كما هي، تذكرتُ ما حدث وقتها،
 الدكتور بكر.. شخص رائع!

_

كان بكر منشغلًا بالبحث عن كتاب جيد مناسب لعبد الله، الذي أوصاه أن يأتيه بكتاب آخر،
 فهو لا يريد الدخول عند بلال.
وجد كتابا رائعًا، لـ علي الطنطاوي، فسحبه ببطء، ثم جاء ليلتفت إلى بلال،
 فوجده ينظر إليه باهتمام شديد، وبدهشة وعيناه مملوءتان بالتساؤل، ابتسم قائلا:
 ما الأمر يا بلال؟ أهناك شيء في وجهي؟
انتبه بلال من سرحانه في بكر ثم احمّر وجهه إحراجًا، وأشاح بوجهه قائلا في اضطراب: لا شيء.
عاد بكر إلى مكتبته وفي داخله ضحكة انتصار وفرح، لم يستطع أن يظُهرها أمام بلال.
ضحكة فرح لأنه استطاع جذب اهتمام بلال لينظر إليه! بعد أن كان لا يطيق النظر إليه.
وضحكة انتصار لأنه تمكن أخيرا.. من أن يٌوقع بلال في حبّه.. 
هو يعرف أن بلال لن يتقبل أي شيء منه مادام يكرهه، 
والآن وقد أصبح يتقبله بحب وأصبح ذلك واضحًا في سلوكه وتصرفاته معه..

 فهو يستطيع التأثير عليه وإقناعه بما يريد.

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم