أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الحادي عشر)

رواية أنا أكرهكم


 (11)


في المساء، كان بكر قد خرج إلى متجره، أما عبير فقد استيقظت من العصر وأنهت واجباتها المدرسية، 
وانهمكت في قراءة أذكار المساء وحفظ وردها اليومي،
 ثم صلّت المغرب وتوجهت بحماسة طفولية إلى غرفة بلال لتوقظه للصلاة ولتلعب معه أيضا.
فتحت الباب بحذر لتجد الغرفة مظلمة، ويصدح فيها صوت تنفس بلال السريع المنتظم الذي يدل على غرقه في النوم،
 شعرت بالشفقة أن توقظه وتذكرت أنها في إحدى المرات جمعت المغرب مع العشاء عندما كانت متعبة.
 ابتسمت برضا وهي تهمس لنفسها: لن أوقظه.
ثم أغلقت الباب وركضت نحو خمارها وارتدته على عجل، 
وأخذت مفتاح المنزل من على منضدة صغيرة بجانب الباب ثم خرجت وابتسامتها تتسع بلهفة وشوق شيئا فشيئا.

_

بعد أذان العشاء بنصف ساعة دخل بكر لمنزله وهو ينادي على عبير، تلفت يُمنة ويُسرة فلم يجدها،
 خمّن على الفور أين هي، فانطلق إلى غرفة بلال ليطمئن عليه، فتح الباب ليجده مستغرقًا في النوم، 
همّ بغلق الباب لولا أن أذنه التقطت صوت تنفس بلال السريع المضطرب، ثم سمعه يأنّ بضعف.

عقد حاجبيه وقد بدأ القلق يهاجمه، فتح ضوءًا خفيفًا بجانب بلال، واقترب منه،
 كان بلال مغمض العينين، مصفر الوجه متعرقا،
 وعلى وجنتيه حمرة خفيفة جعلت بكر يتحسس جبينه ليقول بضيق: لمَ هذه الحرارة؟
كان بكر قلقًا جدّا أن تتدهور حالته بسبب نفسيّته!
فتح بلال عينيه ببطء، سأله بكر بلهفة: بلال، هل أنت بخير؟
يبدو أن بلال لم يستوعب شيئا فقد أغمض عينيه مرة أخرى، تنهد بكر في حيرة، 
ثم التفت إلى الخلف عندما سمع باب المنزل يُفتح وصوت عبير تقول: السلام عليكم.
انتظرها حتى دخلت غرفة بلال وضحكت بفرح وهي تركض إليه قائلة:
 أبي أنت هنا، لقد لعبتُ مع بثينة لعبة جميلة أريد أن ألعبها معك.
تلقاها بيديه مبتسما، وهو يجاملها، فنظرت إلى بلال النائم قائلة:
وكيف حال بلال؟ أما زال نائما؟
غمغم بكر وهو ينظر في عينيها: حرارته مرتفعة، هل تعتقدين أنه شيء مقلق يا عبير؟
عقدت حاجبيها في خوف وهي تهتف: ماذا؟ نعم إنه شيء مقلق يا أبي..
ثم قفزت لتقترب من سريره وتضع يدها على جبينه، والتفت إلى الخلف لتنظر إلى أبيها نظرة فزع، ثم قالت: 
أبي. ألن تفعل شيئا؟
أومأ برأسه وهو يناولها مقياسا للحرارة، قائلا: تستطيعين استخدامه حتى أبدّل ملابسي؟
أومأت برأسها، ثم خرج هو، عاد بعد قليل بكمادات باردة وقد بدّل ملابسه، 
نظر إلى ابنته التي تمُسك المقياس في يدها وتدقق النظر إليه، قال باهتمام: ما الأخبار؟ كم درجته؟
قالت بعد تفكير: إنها ثمان وثلاثون درجة، ليست خطيرة.
ثم ابتسمت ابتسامة لطيفة لتطمئنه، وضع الكمادات في الماء واعتصرها وهو يقول في شرود:
 نعم ليست خطيرة ولكنني خائف يا عبير من أن تكون هذه الحرارة مقدمة لمرض ما.
قالت عابسة:
 لا يا أبي لن يكون مرضا خطيرا، الحرارة تأتي لي كثيرا، 
ولكنها تزول بسرعة، سوف أصنع له كأسا من الليمون وينتهي هذا الأمر.
ثم نظرت إليه نظرة حنونة:
وسوف أعتني أنا به يا أبي، فوجهك مرهق كثيرا وتحتاج للنوم الآن.
ابتسم لها ممتنّا ثم همّ بوضع الكمادات على جبين بلال لو أنه انتفض في فزع 
وفتح عينيه ينظر إليهما وهو يأخذ أنفاسه بصعوبة.

_

نظرت إليّ الطفلة الثريّة في استغراب وخوف من مظهري، قلت بلهجة باردة إلى أمها المتكبّرة: 
أريد أن أعمل في الحديقة، إنني أستطيع قص الأشجار ببراعة...! ولكن أريد راتبًا يوميّا وليس شهريًّا..
نظرت إلي المرأة المتكبرة بطرف عينيها الملونتين بعدسات صناعية
 ورموش صناعية مركبّة وهي تقول بصوت ناعم: 
أعتقد أنني أحتاج عاملا للحديقة، ولكنني آسفة فمنظرك سيء جدا.. تحتاج إعادة تأهيل!
نظرتُ لها بعينين خاليتين من المعاني، وظللتُ واقفا وأنا أقول لها: 
سوف أعمل اثنتي عشرة ساعة في اليوم، دون استراحة ولو لساعة واحدة.
 وأما عن المنظر فسوف يتغير كليًّا بمجرد موافقتك..
تنهدت تلك السيدة وهي تعيد النظر إلي من فوق رأسي إلى أخمص قدمي،
 علي أن أتذلل لها قليلا لكي توافق، تبًّا، حاولت التبسم في وجهها قائلا بلهجة متوسلة:
 سيدتي إنني أعلم كرمك وحسن أخلاقك، هذا عمل إنساني، فأخي في العناية المركزة وأنا أحتاج المال بشدة.
نظرت إلى ساعتها في تأفف وقالت وهي تمطّ شفتيها:
 حسنا، عليك أن تُريني منظرك الجديد في ربع ساعة فقط، 
سوف تجد ملابس العامل السابق في غرفته بجانب البواّبة..
ابتهجت كثيرا ونظرتُ لها بفرح، فقالت: 
هيا سوف أنتظر هنا.. أسرع.
في خلال ربع ساعة كنت قد تنظفت وارتديت قميصًا أبيضًا على بنطال أسود،
 وفوق القميص صدرّية سوداء، سرحت شعري الناعم بيديّ وأنا أصعد إليها،
 بمجرد رؤيتي ضحكت ضحكة عالية وهي تقول:
 يا إلهي، لم أتوقع أن كتل الوسخ تلك كانت تُخفي تلك الوسامة..
تبسمت لها مجاملة، وهكذا كان أول لقاء لي،
 أنهيت العمل في اثنا عشر ساعة كما هو مطلوب مني، من الساعة السادسة فجرا حتى السادسة مساء.
ثم انتقلت إلى العمل التالي، أتوقف في الطريق، لأمارس مهنتي الأصلية، التسول!!
كنت أحصل على مبالغ وفيرة منها، وكذلك من العمل في حديقة المرأة الثريّة،
 ظللتُ عشرة أيام، حتى جمعت عشرة آلاف جنيه، بعد أن فارقت روحي جسدي..
فمن شدة العمل، كنت لا أنام إلا إغماء في الطريق، ولا أشرب أو آكل من جيبي أبدا،
 ولا أتكلم مع أحد إلا لطلب المال، كل هذا من أجل عدنان... أخي!
بمجرد أن شعرت بكفاية المبلغ، وبهوله وعظمته بالنسبة لي،
 حتى أسرعتُ إلى المستشفى الخاص ذاك، طبعا أنا لا أعلم أي شيء عن أختي وعن أبي وأمي،
 فقط أريد إنقاذ عدنان، وأعلم أنني لو التجأت إلى أبي لآخذ منه أي مبلغ، فسوف يطردني.. شرّ طردة.
كنت أتكلم مع موظفة الاستقبال، وأقول لها اسم عدنان الكامل لتخبرني بمكانه، وأريد دفع بقية المبلغ، 
كنت متحمسا جدا، وفجأة كبّت عليّ تلك الموظفة دلو ماء بارد عندما قالت بكل هدوء: 
هذا الاسم ليس لدينا يا سيد، هذا المريض ليس موجودا في هذه المستشفى!
صرخت بقوة مصدومًا: 
ما الذي تقولينه؟!! قبل عشرة أيام جئت به إليكم أيها الأوغاد.. ابحثي عنه جيدا.
غضبت تلك الموظفة وهي تقوم واقفة:
 لو سمحت هذه قلة أدب، تكلّم بلطف أكثر فما أنا إلا مجرد موظفة.
انهرتُ عليها بكل مشاعري وأنا أصرخ بهستيريا:
 بل أنت المسؤولة، كيف تقولين لي عدنان ليس عندكم؟
هل كل هذا لأنني لم أدفع المبلغ الملعون؟ سوف أدفعه لتشبعوا به، لكن أروني أخي..
بعد قليل وجدت رجال الأمن يركضون باتجاهي ويكبّلونني من كل اتجاه، وتلك الموظفة تشير علي بغضب قائلة:
 إنه مريض نفسي، أقول له اسم هذا المريض ليس موجودا، فينفعل علي بهذه الطريقة..
 إن عقله ليس على ما يُرام، بل إنه مجنون بالفعل!
نظرتُ إلى وجوه رجال الأمن من حولي فوجدتها قاسية وجميعهم يجرّونني باتجاه بوابة المستشفى، 
صرخت بقهر وألم: 
اتركوني.. أخي هنا، أخي يموت، أخي بحاجة إلي..
 ولكن كل ما أقوله لهم لم يزدهم إلا إصرارا على أنني مجنون وأريد الإضرار بهذا المستشفى..
وجدت نفسي مرمّيا أمام البوابة، دون حول مني ولا قوة،
 أشعر بأنني غير قادر على الرؤية، بسبب الغشاء الذي أحاط عيني، الدموع التي أغرقتني..
 نعم.. اليأس الذي تملكني عندها، ما زلت على حالي منذ دفعوني لأسقط على وجهي أمام البوابة،
 لم أتحرك، فقط، دفنت وجهي في الأرض وظللت أضرب الأرض بقبضتي، مغتاظا، ومتألمًا.

_

ظللت مدة طويلة أو قصيرة؟ لا أدري، ولا أتذكر، ربما فقدت وعيي، أو نمتُ وأنا على هذه الحال.
فلم أشعر إلا بشخص يرُبت على كتفيّ وبرأسي تستند إلى فخذ أحدهم 
وهو يمسح وجهي بمياه باردة جعلتني أنظر إلى ذلك الشخص فزعا بملء عينيّ..
كان رجل أمن، لكن ملامحه كانت لطيفة وهو يقول: هل أنت بخير؟ هل أنت على ما يُرام؟
لم أردّ عليه، وبكل برود حاولت الجلوس، فقال لي بابتسامة: مدير المستشفى ينتظرك في الداخل.
غمغمتُ باستغراب حاد: مدير المستشفى؟ لماذا؟
أمسك يديّ وساعدني على الوقوف ثم قال: نعم، لا أدري، ولكن تعال معي..
كنت مستسلما وخاليا من الانفعالات، ظللت أمشي وراءه وأدخل المستشفى،
 أُلقي نظرة على موظفة الاستقبال، لقد تغيرت! هل يعني هذا أنني نمت كثيرا في الخارج؟
 ثم أدخل في ممرات كثيرة حتى تركني الرجل في مكتب كبير ضخم،
 يجلس على المكتب رجل وقور، بمجرد أن رآني قال: 
أنت بلال؟
أومأت برأسي فقال اجلس، جلست فقال لرجل الأمن: اطلب كأسين من العصير..
أغلق ذلك الرجل الباب، ظللت أنظر للمدير بحدّة، فقال بوجه متفهم: بلال.. 
أعلم أنك لست مريضا نفسيا كما قالت تلك الموظفة.. فأنا متأكد أن هناك مريضا هنا اسمه عدنان.
اتسعت عيناي عن آخرها وأنا أهتف: حقًّا؟
قال بهدوء: نعم.. لقد كان هذا المريض فعلا موجودا!
همستُ بحيرة وانفعال: كان؟ حسنا وأين هو الآن؟ كيف حاله؟
سعل المدير قليلا وعيناي متعلقتان بوجهه وأذناي متحفزتان لسماع أي كلمة عن أخي،
 شعرتُ أن لحظات السعال كانت طويلة جدا على أعصابي رغم أنها كانت ثانيتان فقط!
سكت قليلا قبل أن يقول: قبل تسعة أيام، أي بعد يوم واحد من دخول هذا المريض إلى المستشفى..
تأملني وأنا أحدّق إليه بعينين شديدة التركيز، ثم قال متنهدا: لقد مات هذا المريض لظروفه الصحيّة!
شهقتُ وأنا أضع يدي على فمي وأنظر إليه مصدومًا، فأكمل هو بألم: 
لقد حاولنا بكل جهدنا إنقاذه، ولكنه كان مستسلما تمامًا للموت، ولم يكن في أيدينا أي شيء.. 
وعرفنا من الاستقبال أن ولدا اسمه بلال هو من أحضر هذا المريض، حاولنا البحث عنك.. لكننا لم نجدك.
كنت أحدّق إليه بنفس النظرة المصدومة، فنظر لي بشفقة وغمغم:
 لقد دفنّاه وانتهى الأمر، هلّا جئت مبكرا عن هذا قليلا يا سيد بلال؟
هل أنا أتنفس؟ إنني أشعر بأنني لا أتنفس!!
قمت بهدوء شديد وخرجت من غرفته، ظلّ المدير ينادي علي دون جدوى،
 قابلني أحدهم وهو يحمل كوبين من العصير، نظر لي باستغراب ثم أكمل طريقه، وأنا أيضا أكملت طريقي.
لا أزال غير مستوعب، أسير دون تفكير، أستند إلى جدار بيتنا الطيني وأنا ألهث،
 قواي خائرة، وطاقتي انتهت منذ زمن.. أنا أصلا فاقد الروح.
فتحت رقية الباب، هل طرقتُه أنا دون أن أشعر؟ لا أدري.. 
المهم أنني شعرت بها تعانقني بسعادة وهي تقول: بلال.. كيف حالك؟ هل عالجت عدنان؟
قلت مباشرة دون انتظار: لقد مات..
امتقع وجهها وهي تتراجع إلى الخلف هاتفة: من؟
كررتُ قولي بشرود: لقد مات..
شهقتْ عدة شهقات متتالية قبل أن تبدأ في البكاء هاتفة دون تصديق: لا، مستحيل!
دخلت أنا المنزل وتوجهت مباشرة إلى أبي، قلت له ببرود: عدنان مات.. بسببك!
رفع نظره لي بحدّة، ثم امتلأت عيناه بالغضب صارخًا: 
أين أنت منذ أسبوعين؟ هل تهربت من العمل؟
وكأن خبر موت عدنان لا يعني أي شيء بالنسبة له!
أكمل صراخه: أخذت المال مني لتعالج عدنان؟ ها هو مات ولا فائدة فيه! 
عليك الآن أن تعوضني عمّا دفعته لك.. أتفهم؟
كنت مذهولًا من موقفه، ابتسمت بألم مغمغمًا:
 إنني أقول لك عدنان مات!! أي حقارة تعيش فيها أنت؟
شعرتُ به يجذبني من شعري القصير، مزمجرا في غضب:
 كُفّ عن إهاناتك السخيفة وتعامل معي كابن محترم، أنت تتمتع في الشارع وأنا وأمك وأختك نعاني في العمل!
 فبعد فقدان أختيك التوأم ونحن لدينا نقص حاد في الأرباح!
غمغمت بصدمة:
 فقدان أختيّ التوأم؟؟! هل ماتا؟
قال من بين أسنانه وهو يضرب رأسي في الحائط:
 نعم، لقد ماتا في حادث سيارة هما الاثنتان، ولم نكسب من الحادث شيئا، فالسائق هرب قبل أن نجده!

لا أعلم من أين يأتي الألم تحديدا، هل من شعري الذي يسحبه أبي بقوة، أم من رأسي التي يضربها في الحائط؟
 أم من صوته الأجش المزعج وهو يدخل أذني ويسبب لي صداعًا فظيعًا؟
 أم من روحي التي تُسحب مني؟
صرخ أبي: لقد استلمت جثتيهما اليوم، ولم أُعوّض بجنيه واحد عن موتهما، 
وكل هذا بسبب إهمالك للعمل الجماعي الذي علمتك إياه!
ثم أرغم وجهي على النظر إلى جثتين صغيرتين مغطيتين بكفن أبيض مهترئ، 
اقترب منهما وهو يجرّ شعري وكشف الغطاء عن وجهيهما، اتسعت عينيّ عن آخرها وحبستُ أنفاسي!
هل أبكي؟ لا ليس هناك دموع، لقد جفّت.. 
وجه زهرة الرقيق، لقد قطعت شفته وشحب جلده وانهمر الدم غزيرا من أنفه!
 أما بسمة، فكانت هنالك بسمة رقيقة على شفتيْهِما المتشققة،
 وخصلات شعرها البني الناعم مخضبة بدمائها على جبينها..
ألم أقل لكم؟ الألم الذي نشأ في روحي لم أعد قادرًا على الإحساس به!
قلت له بشرود: أبي.. سوف أعطيك شيئا على شرط!
هتف بلهفة: ما هو؟ قلت: اترك رأسي..
تركها على مضض، فابتعدت عنه، وأخرجت عشرة آلاف من محفظة قماشية كانت في جيب صغير داخل معطفي، 
ثم رميتها على الأرض، فوقف يتطلع إليها في ذهول وفرحة.. 
بصقت عليها باستحقار، ثم هتفت بانفعال:
 كل تلك الأموال.. لك.. من أجــــــــــــــلـــــــك!! ولكن شرط أن تتركني أخرج من هنا!
ضحك ضحكة عالية ثم أمسك الأموال يتحسسها ويشمها، خرجت أنا من الغرفة، لقد قررت..
 سوف أهرب من هنا لأنتحر.. فالحياة لا معنى لها الآن عندي!

_


ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم