أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الواحد والثلاثون والأخير)



رواية أنا أكرهكم



(31)


استيقظتُ من النوم، لأجد الفراش بجانبي فارغًا، نهضتُ بتثاقل لأفاجئ بعدنان يدخل،
 صرختُ من المفاجأة والفرحة وركضتُ إليه، لكنني سقطت وقد تباعدت الجدران عنّا بطريقة غريبة،
 وسقط هو معي أيضًا، رأيته من الناحية المقابلة يغرق في دمه، لم أستطع التحمّل، 
متى تنتهي هذه الكوابيس؟
اكتشفتُ أنني أقوم لاهثًا في منتصف الليل ويقوم الدكتور بكر قلقا هو الآخر ليهدّأني،
 لقد كثر هذا جدا في الآونة الأخيرة، صحيح أنني تحمّلت وأصبحتُ قويًّا في إخفاء مشاعري،
 لكن الأحلام تفضحني في الليل.
كنت أذهب إلى الورشة كل يوم لأهلك نفسي بالعمل ثم أعود وأنا لا أرى أمامي أي شيء،
 كنا قد انتقلنا للعيش مع الدكتور بكر مؤقتًا من أجل رقية التي بدت لي أنها تعاني الوحدة كثيرًا في غيابي، 
واقتنعتُ بأن من الأفضل لها قضاء الوقت مع عبير في نشاطات مشتركة، 
وأنا على كل حال لا أزعجهنّ فأنا منذ الصباح الباكر في الورشة ولا أعود إلا متأخرًّا جدا! لقد كنت أقصد هذا! 

لم أكن أريد أن أستسلم لتلك الأفكار المؤلمة التي تسيطر علي بخصوص عدنان.
لم أفكر أبدًا في زيارته في السجن ولا حتى الحديث مع الدكتور بكر بشأن تكليف محامي بالدفاع عنه، 
كنت متأكدًا جدا أنه بريء وفي نفس الوقت لا أريد أن أنصر ظلمه على حساب حبّي له!
ذات يوم، عدتُ إلى المنزل وأنا في غاية الإرهاق، بعد شهرٍ كامل من القبض على عدنان، 
العرق كان يغمر جبيني وأفتح عيني بصعوبة لرؤية الثقب الذي يجب أن أُدخل فيه المفتاح!
فتحتُ الباب ببطء حتى لا يُصدر أي صوت يزعج به النائمين في هذا الوقت، 
لكنني فوجئت بشدة وأنا أرى ضوء الصالة مفتوح، 
ويجلس على أريكة الاستقبال الدكتور بكر وأمامه شخصان رأيت رقبتهما، رقبة رقيّة، ورقبة شاب آخر!
رأيت شعره من الخلف، فجفلتُ وأنا أنظر مبهوتًا، زادتْ رجفتي حين قام والتفت إلي بكامل جسده، لقد كان عدنان!
اهدأ بلال، هذا حلم بالتأكيد، انتشرتْ على وجهي معالم الحزن وأنا أراه يهرع لاحتضاني بوجه متأثر،
 متى سنسقط معًا هذه المرة؟ عندما يحتضني أو قبل أن يصل إلي؟
شعرتُ بملابسه الدافئة ورائحة ملابسه، صوته الحنون وهو يقول: 
آسف أنني فعلتُ كل هذا بك يا بلال، اعذرني، من الآن فصاعدًا لن نفترق أبدًا!
لم أفهم شيئا، فلم يقل عدنان أي كلمة من هذا الكلام سابقًا في أحلامي، لم إذن هذا الحلم متغير بهذا الشكل؟
كنتُ باردًا، أنظر للجميع بهدوء، أنتظر الكارثة التي ستُنهي الحلم كالعادة لأقفز فزعًا من سريري.
قال بكر بتوتر وعينيه تضطربان في قلق وهو ينظر إلي:
 بلال، عدنان قد خرج بكفالة، ودخل بدلًا منه فريد باسم، عدنان لم يكن مذنبًا في الحقيقة.
عدنان خرج؟ هو أمامي الآن إذن..
جلستُ ببطء بجانب عدنان ورقية، شعرتُ بدف الأريكة وانغماس جسدي المُتعب فيها بكل راحة،
 وقعتْ عيني على المنضدة التي تتزين بأطباق حلوى وفواكه أمامي، وبعض أكواب العصائر والشاي،
 تبدو كبقايا حفلة!
لمستْ رقية خدّي بيدها لأتفاجأ بوجهها الذي أفرغ دموعًا هائلة لتوّه لكنه ينبض بالسعادة!
 قالتْ لي بإشفاق: أعلم أنك غير مصدّق لما يحصل الآن ولكنها الحقيقة!
اختلج صوتها وهي تقول:
 عدنان الآن معنا، لن يعود للسجن مجددا ولن يعود لتجّار المخدّرات، لقد أصبح حرًّا وتائبًا!
قطبتُ حاجبيّ وأنا أفكّر في احتمال بسيط أن يكون هذا الحلم حقيقة ولكن..
أشعر بجمود ثقيل على قلبي يمنعني من اتخاذ ردة الفعل المناسبة!
انفرجتْ شفتاي أخيرًا لألقي ابتسامة مسرورة أطمئن بها الجميع، 
ما أن لمحها عدنان ورقية حتى ارتاحت أعيُنهما وانطلقا في الحديث وإكمال الحفل،
 نظرتُ بتوتر إلى غرفة عبير المغلقة فابتسم بكر متفهمًّا وقال: 
لا تقلق، إنها نائمة لتستطيع الذهاب إلى المدرسة باكرًا!
لا أعلم هل الحلم واقعيّ لدرجة أن كل تفصيل في منزل الدكتور بكر موجود بكل دقة؟!
جلستُ أحدّق إلى الجميع متظاهرًا بالابتسامة وفي داخلي الذهول يتصاعد ليسيطر على عقلي شيئًا فشيئًا.
كنتُ أشعر بضربات يد عدنان تمازحني ونحن نتذكر ذكرياتنا سويًّا، 
كان بكر يتشارك معهما في الحديث ويندمج بكل سهولة رغم غرابة بعض الألفاظ والأحداث عليه،
 لكن بكر لم يعد غريبًا.. أصبح وكأنه.. والدنا!
حتى أن عدنان أحبّه بسرعة رغم امتعاضه منه سابقًا، وبدا لي أن رقيّة سعيدة جدا بهذا الاجتماع. 
وكأنها ترى قرّة عينها أمامها.
لكنني لم أكن أتفاعل إلا ببضع ابتسامات شاحبة هادئة، لم أكن أعلم هل السبب أنني موقن بأن هذا حُلم؟ 
أو أنني متعب جدا لدرجة الهذيان.. وتخيّل الأحداث؟
بدأت أشعر بالملل، متى سينتهي هذا الحلم؟ 
أنا أعلم أنه حلم ممتع لكنني لا أريد الاستغراق فيه لينقطع بفظاعة كالمرات السابقة، 
سأحتفظ بمشاعري حتى ينتهي الحلم وأنا هادئ تمامًا.
 لكن لم يحدث شيء، لم نسقط ولم يُقتل عدنان ولم أختنق حتى الموت!
بدأت الشكوك تراودني حول كوْنه واقعًا، نظرتُ بجنون إلى الساعة التي تمرّ، الوقت يمر بانتظام وهيْبة،
 منزل الدكتور بكر كما هو، إحساسي بإسفنج الأريكة الناعم تحتي حقيقي! كل شيء حقيقي!
بدأت أنفاسي بالتصاعد والاختناق، توقف عدنان عن الحديث وهو ينظر إليّ بحيرة قلقة، 
ما الطريقة الأمثل لإنهاء حلم ما؟!
علي أن أشعر بالألم لإيقاف هذا الحلم!
ابتلعتُ ريقي بألم وأنا أمدّ يدي إلى السكينة ببطء، 
نظر إلي بكر نظرات مُرتعبة وقام من فوره واقفًا: بلال، ما بك؟
لا أعلم إذا كان قد فهم ما سأقدم عليه أم لا،
 لكنّه تجاوز المنضدة بخطوة واسعة ومنعني من إكمال جرح يدي بالسكين..
كنت قد جرحتُها بالفعل جرحًا بسيطًا، 
توقف عن التنفس وهو ينظر إلي بإشفاق إلى عينيّ المصدومتين بمنظر الدم، لم أستيقظ، إذن.. هذا واقع؟!
بدأت أرتجف وأنا أمسك برأسي، مستحيل! عدنان موجود فعلا؟
 إنني أشعر بالألم في يدي، وبإحساس الدم يسيل على أصابعي!
بدوت وكأنني على وشك فقدان عقلي، أو على وشك الإغماء، لم أعلم ماذا سيحدث لي، 
لكنني شعرتُ ببكر يحتضنني برفق وهو يقول بصوت رقيق: بلال، أعصابك متعبة فقط، استرح قليلا يا بنيّ..
ضغطتُ أكثر على الصداع الذي يتزايد في رأسي وقلتُ بانهيار: لا، مجرد حلم سخيف!
لكن عدنان الذي أمسك كتفي وهو ينظر إلي بعينين عاتبتين، أطار تلك الأفكار من رأسي، 
ورقية من الجانب الآخر، تركني بكر معهما، بعد أن ودّعنا بنظرات حانية، كانا متأثرين جدا لحالتي،
 احتواني عدنان بين ذراعيه بينما جلست رقية بجانب كتفي تسُاندني..
 بالطبع كانت ردّة فعلي كمريض نفسيّ حقيقي!
انهيار وبكاء هستيري كالفتيات تمامًا، كنتُ أعيب ذلك على رقية وعبير في السابق، الآن أنا أسوأ منهما حالًا.. 
لا أعلم كيف كذب الدكتور بكر عليّ في الماضي وأخبرني أنني لستُ مريضًا نفسيًّا؟
لكنني كنتُ أضحك، أضحك بشدة حتى البكاء، وأنا أرى نفسي أمام عدنان الذي بدأ يضحك عليّ ساخرًا مع رقيّة..
مرّت الدقائق سريعة واكتشفت أن الحلم حقيقة، لقد عاد عدنان إلينا!

_

مرّت سنوات كثيرة، أعتقد أنها سبع سنوات!
انتقلنا نحن الثلاثة للعيش في منزل قريب من الدكتور بكر، أصبح عدنان الآن في أمان،
لقد ضحّى فريد باسم بكل ما لديه لإنقاذه من السجن ودخل بدلًا منه، على كل حال كان عجوزًا على وشك الموت!
لذلك لم نخف على عدنان من أي شيء سوى عوائل أولئك المهرّبين الذين قُبض عليهم،
 لكن هم على كل حال لا يعلمون هويّته الحقيقية
 فقد استقال شهاب من منصب رئيس المستشفى إلى أحد أطباء المستشفى.. وتخلّى عنها للأبد!
تركتُ العمل بالورشة إلى تعلّم برمجة الحاسب، ذلك الجهاز الذي أغرمتُ به في الماضي 
عندما رأيته مع عادل زوج مريم أخت بكر،
 أختي رقيّة أيضًا دخلت معهدًا لتعلّم اللغات وعملتْ مدرّسة في مدرسة ابتدائيّة.
ومنذ أتمت العشرين من عمرها، تقدم لخطبتها ذلك الوغد زيْد،
 لم أكن أتوقع أبدًا وأنا أفتح له باب منزلنا رؤيته في مثل هذا الوقت، اعتذر أنه جاء بدون موعد 
ولكنه حاول البحث عنّا كثيرًا، وحصل أخيرًا عليه من الدكتور بكر،
 أخبرني بابتسامته المستفزة أنه سيُنهى دراسته في كلية الطب قريبًا ويريد الاطمئنان أن رقية ستكون من نصيبه.
كنت في تلك اللحظة على وشك طرده،
 لكن عدنان جاء مُسرعا ودعاه إلى الدخول بترحاب وتفهم، ظلّ طوال الوقت معه.
كنت _بدون سبب_ لا أستطيع تحمّل وجوده معي في نفس الغرفة، لا أطيق هذا الرجل!
بالطبع كان يُلقي النكات المضحكة بخفة دمه لينفجر عدنان ضحكًا وأبتسم أنا مجاملة.
بعدها تشاجرنا أنا وعدنان بسبب ذلك، كنت أقول له بعصبية:
 إنني لا أتحمّله، لا أستطيع الموافقة عليه وقلبي لا يرتاح له.
أمسك عدنان كتفيّ بقوة وقال بحسم:
هو لن يتزوجك، رأي رقيّة سيكون هو الرأي الفاصل في هذه المسألة، 
وبالتأكيد لا حاجة لأؤكد لك أنني أعتقد أنه رجل كريم.
ابتسمت بسخرية مغمغما: فعلا.
تنهد عدنان بقلة حيلة وهو يبتسم قائلا: 
منذ حاول رجل الأمن طرده من المستشفى عندما أتى لزيارتك ثم توضيح دكتور بكر ودفاعه عنه 
وأنا أعتقد أنه بالفعل شاب مكافح، ربما لم يعجبك بسبب تساهله ومبالغته في المزح مع أي شخص،
لكنه في وقت الجد بالغ الحرص والاهتمام، كما أنه ذو دين وأخلاق.
بعدها انتهى الموضوع حين وافقت رقيّة بخجل وهي تُطرق برأسها أرضًا، 
كان عدنان يردد مرارًا أنه لو لم يكن موجودًا لما تمّ هذا الزواج بهذا الشكل!
والآن بعد ثلاث سنوات أخرى، رقية تعيش بهدوء في بيت جميل صغير قريب منّا، 
فهذا الشرط الوحيد الذي اشترطته على عدنان لأوافق أن أكون هادئًا، 
أن تكون رقية قريبة مننا لنستطيع زيارتها متى شئنا، ولتكون أيضا قادرة على رؤيتنا في أي وقت.
وزيْد يعمل طبيبا في إحدى المستشفيات الحكومية، ليعود في آخر اليوم إلى زوجته "التي هي أختي بالمناسبة"
وطفلته الصغيرة زهرة، التي أحبّت رقية أن تسميّها على اسم أختها الراحلة، 
وحين تأتي طفلة أخرى ستسمّيها على اسم نسمة أيضا.
في الحقيقة كنت عند زيارتهم أنشغل أنا بزهرة حتى لا تفلت أعصابي أمام استفزازات زيد،
 وأترك عدنان يتوّلى زمام الأمور مع هذا الوغد.

_

انقطعتُ فترة عن الدكتور بكر وزيارته لظروف في عملي، فترة طويلة تقارب ثلاث سنوات كنت أهاتفه فيها فقط،
 لذلك كنت متشوقًّا جدا لزيارته بعدها، ولكنني كنت مُحرجًا جدا أيضًا!
لتلك الفكرة التي عشعشت في رأسي منذ رأيت خيال عبير الأسود خارجًا من المنزل
 في حفل زفاف أختي منذ ثلاث سنوات، لقد أصبحت تُقارب العشرين عامًا! 
أما أنا فقد دخلتُ لتوّي في الخمسة والعشرين، 
أعلم لقد كبرنا لدرجة مهولة حتى أنني لا أصدّق نفسي وأنا أنظر إلى لحيتي السوداء الصغيرة في المرآة!
هل تظنونني مناسبًا لها؟ عبير هي الفتاة الوحيدة التي أشعر بالخجل كلما تذكرتها!
كنت متوترًّا جدا وأنا أقف أمام الحوض في الحمام، سمعتُ صوت عدنان المنزعج في الخارج:
 بلال، لقد أطلتَ في الداخل كثيرًا، ماذا تفعل؟
أخذتُ نفسًا عميقا وأنا أخرج، ليُفاجئ بحلّتي الرسمية الفخمة التي أرتديها، حكّ رأسه في كسل قائلا: 
هل ستخرج اليوم لمقابلة عمل؟
ابتسمت بتوتر قائلا: لا، يكفيني عملان فقط في اليوم، هل تريدني أن أموت؟
ضحك عدنان وهو يتخطّاني إلى الحمام: أنت كنت تريد الموت قبًلا، المهم أين ستذهب؟
قلتُ له بتهكم: أين سأذهب في يوم جمعة يا عدنان الآن؟ بالله عليك، فكر قليلا!
فجأة أمسكت كتفه برجاء وأنا أقول بتوسل: أرجوك تعال معي!
استغرب عدنان ونظر إلى يدي المتمسكة بملابسه قائلا بدهشة: أين؟ هل تخاف من الوحوش يوم الجمعة؟
ابتسمتُ بخفة على مزحته ثم قلتُ بغم: لا، بل عند الدكتور بكر!
ابتسم بخبث وقد فهمني تمامًا، سحب ملابسه من بين يدي وهو ينظر إلي نظرة خاصة:
بلال، أرجوك كن رجلًا حازمًا، ألا تستطيع اتخاذ قرار كهذا لوحدك؟
نظرتُ إليه بيأس وأنا أشعر كلماته تقتلني، قلتُ بإحراج: أنت تعلم أن الموضوع مُحرج جدا!
وقف عدنان أمام الحوض وبدأ بتفريش أسنانه وهو يقول بلا مبالاة:
 لا أراه مُحرجًا، أنت ستذهب لتطلبها فقط منه، ولا تنس الاعتذار عن كل تلك الفترة التي انقطعت فيها عنه،
 لا تبررّها بهذا الموضوع الذي تشعر أنه مُحرج لك،
 فمهما كان يجب عليك الاستمرار في علاقتك مع الدكتور بكر حتى لو رفض طلبك!
شعرتُ بالاكتئاب لمجرد تلك الفكرة، أن يرفض الدكتور بكر طلبي لعبير؟ يا له من احتمال مخيف!
أكمل عدنان وهو يتمضمض بصوت مُزعج: 
بالإضافة إلى أنني إذا ذهبتُ معك ربما سيعتقد الدكتور بكر أنك ما زلت طفلا، 
ولكن إذا ذهبت لوحدك وأخبرته طلبك بكل حزم وقوة سيُعجب بك وتقطع نصف المسافة،
ثم نأتي أنا ورقية إن شاء الله إذا حصل وفاق أو خطوبة، سيكون حضورنا عندها مقبولًا ومرّحبًا به!
اتسعتْ عينيّ بصدمة، تريد أن تحضر الخطوبة فقط يا عدنان!
جاء عدنان ووضع يده المبللّة على كتفي قائلا بجدّية: 
هيا يا بلال صدقني إذا قمت بالخطوة الأولى ستجد الموضوع أسهل مما تعتقد!
صرخت منتفضا وأنا أبتعد عن يده المبللة وأطلق هو ضحكة عالية وهو يمضي إلى غرفته، قلتُ له مستوقفا:
 ولكنك يا عدنان لم تقم بهذه الخطوة من قبل!
 رغم أنك أكبر سنًّا، ألا يعني هذا أن لي الحق في الاضطراب والتوتر من هذا الموضوع؟
لم يلتفت عدنان وقال بلهجة اعتيادية: 
أنا لم أقم بهذه الخطوة لأنني لا أريد، لو كنتُ أريد لفعلتُها،
 لكنك تريد ولا تجرؤ على فعلها بسبب خجلك، هذا هو الفرق بيننا!
قلتُ بامتعاض وأنا أنظر له بازدراء: أتعني أنك ستظلّ طول حياتك عازبًا؟
التفت إليّ ليُغلق الباب وقال مُشاكسا بابتسامة خبيثة: 
نعم، فالعيش مع أخوتي ممتع جدا! خصوصا معك!
وأغلق الباب ببطء مطلقا ضحكات شريرة، تنهدتُ بأسى وضيق وأنا أرى الساعة تجاوزت التاسعة صباحًا..
 ألقيتُ نظرة عابرة على الإفطار التي أرسلتْه لنا رقية، ابتسمتُ بحنان وأنا أتناول لقمتين، 
ثم أنظر بفزع إلى رسالة الدكتور بكر على هاتفي: 
"أنتظرك اليوم العاشرة صباحًا في منزلنا، بالمناسبة لقد غيرّنا العنوان، وهذا هو" .." مرحًبا بك يا بلال"

كان قلبي واقعًا في معدتي حين رننتُ الجرس، كنت موقنًا بذلك حتى أنني حاولت تعديله 
ليصعد إلى صدري قليلًا لكن لا فائدة! 
حاولت تهدئة ضرباته في معدتي فعلى الأقل إذا كان لا يريد تغيير مكانه فليهدأ!
تأملتُ المكان الجديد برهبة، المنزل الجديد للدكتور بكر، تُحيطه خضرة جميلة مع أزهار رائعة، 
يتكوّن من طابقين، بسيط للغاية ولكنّه أنيق، 
كعادة الدكتور بكر في اختيار ألوان هادئة تضفي البهجة والهدوء على النفس..
لكن أكثر ما تضايقتُ من أجله هو أنني لن أقابل عبد الله ابن جارتهم مرة أخرى، 
لقد كان الجيران بالفعل هم أفضل ميزة للمنزل السابق، 
تناسيتُ قلقي وحلّ مكانه الذهول حين فتح لي الباب عبد الله بوجه صبوح متبسّم، 
ضحك وهو يفتح ذراعيه لي قائلا: أهلًا بك بلال.
تنازلتُ عن رهبتي وأنا أعانقه بحرارة هاتفًا: عبد الله، كيف حالك؟
كان عبد الله هو الآخر رجلًا طويلًا وعريضًا في الخامسة والعشرين من عمره، قلت له مازحًا: 
ليتني تذكرتُ ربع جنيه! فبمجرد أن تذكرتك حتى ظهرتَ وفتحت لي الباب.
ضحك عبد الله بشدة وهو يُربت على ظهري، كنت أريد سؤاله عن سبب وجوده في هذا المنزل ولكنني رجّحتُ أنه يزور الدكتور بكر مثلي،
 شعرتُ بالإحراج من الدكتور بكر، فلقد أخبرتًه أنني أريد الحديث معه في موضوع خاص،
 كيف يوافق على زيارة عبد الله في هذا اليوم؟!!
زاد التوتر علي وأنا جالس في غرفة الاستقبال الفخمة لوحدي وقد ذهب عبد الله لندائه، كم استغربتُ كثيرًا! 
هل تشعرون أن عبد الله يتجوّل بحرية قليلا؟ يفتح لي الباب ثم يذهب لنداء دكتور بكر؟
 لله في خلقه شؤون.. على كل حال سأستجوبه عن ذلك لاحقًا.
ابتسمتُ بصدق وحب وأنا أشعر بذراعي بكر الدافئتين على ظهري،
 شعرتُ بألم حزين حين تذكرتُ تقصيري معه في الفترة الماضية،
لكنه لم يأتِ لي بسيرة عن ذلك أبدًا، رحّب بي بشدة وبالغ في إكرامي..
جلس بجانبي أمام المنضدة بثوب أبيض أنيق وشعره البنيّ الناعم رطب، يبدو أنه كان يتوضأ قبل مجيئي..
ابتسم بحب عميق وهو يقول مازحًا: هاه يا بلال أما زلت تريد الانتحار برغم كل هذه المميزات الرائعة فيك؟
ضحكتُ بشدة وأنا أتذكر هذا السؤال الذي يسأله الدكتور بكر لي ليذكّرني بحالتي قبل عشر سنوات، 
ظلّت المحادثة على وتيرة هادئة حتى أنستْني موضوعي الأساسي الذي جئت من أجله،
 ونسيت موضوع عبد الله الذي اختفى أيضًا مذ جئتُ! تبا، ماذا يفعل ذلك الوغد في الداخل؟!
احتلّت ملامح الجدّية فجأة وجه الدكتور بكر وهو يقول مبتسما بهدوء: 
إذن، ما هي خططك للمستقبل يا بلال؟ ألن تتزوج؟
وقع قلبي مجددا في معدتي، يا الله!

 هذا الموضوع محرج جدا أمام الدكتور بكر، أعتقد أن نظراتي التصقت بالأرض،
 لم أعد قادرًا على رفع رأسي، أشعر وكأنني فتاة!
كل الأشياء التي سخرتُ من وجودها في الفتيات انتقلت إلي وكأنها تسخر مني هي الأخرى!
هل حان الوقت لأطلب منه يد عبير؟ كلّا، علي التأكد من عدم اقتراب عبد الله أو دخوله علينا فجأة، 
رفعتُ رأسي لأجد ما أفكر فيه حقيقة، لقد دخل عبد الله فعلا وهو يحمل صينية طعام الفطور!
اضطربت قائلا: أنتم تمزحون، ما هذا بالله عليكم؟ أنا لم آت للإفطار..
ابتسم عبد الله بترحيب وهو يضع الصينية أمامي على المنضدة قائلا:
 إنها وجبة إفطار بسيطة أعدّتها عبير، وكذلك الفطير المشلتت أعدته أمي،
 يبدو أن مقولة الجميع عنك بسوء حظك مقولة خاطئة يا بلال فلو كنتَ كذلك ما كنتَ لتأتي اليوم!
ابتسمتُ مجاملة على مزاحه وأنا أتأمل الطعام اللذيذ الذي أعدّته عبير،
 والفطير المشلتت الذي امتنعت سابقًا عن تناوله بسبب عبد الله وها أنا شهيتي تنفجر،
 خصوصا بعد أن قال الدكتور بكر: الإفطار ليس من أجلك فقط يا بلال،
 فنحن عادة نفطر في مثل هذا الوقت لنستطيع الذهاب لصلاة الجمعة باكرًا ^__^..
كدت أن أومأ برأسي موافقا لولا أن تجمدت حين فكرت في معنى كلمة نحن التي انطلقت من الدكتور بكر وكلمة 
"أعدتها عبير" التي انطلقت من فم عبد الله!
هناك أمر خاطئ! رفعتُ رأسي بسرعة وأنا أقول لعبد الله بصدمة: من أحضر هذا الإفطار من عبير؟
كاد عبد الله أن يضحك لكنه كتم ضحكته ثم نظر إلي قائلا ببطء: أنا أعيش هنا يا بلال.
عقدتُ حاجبيّ بعدم فهم، هل جاؤوا معهم إلى هنا للعيش؟ كل هذا رغبة في عدم فقدان جيرانهم؟
قلتُ بعصبية: ولو كنت تعيش هنا، ليس مبررا لما تفعله، ترى عبير بدون حجاب؟ أي رجل عديم المروءة أنت؟
ضحك عبد الله هذه المرة وهو يمدّ كفّه ليربت على كتفي: سوف أخبرك الحقيقة!
ثم نظر إلي بعينين جادتّين قائلا بابتسامة: أنت تعلم يا بلال أن عبير فتاة متميزة،
 وأنها عروس مثالية لمن يتمنى الزواج، ولذلك أنا اتخذت خطوتي و..
قبل أن يُكمل كلامه التفتت إلى الدكتور بكر بتيْه شديد وأنا آخذ أنفاسي بصعوبة،
 كان ينظر إلي بتركيز وحذر وكأنه يريد تسجيل ردة فعلي بعينيه الاثنتين، 
لم أعلم ماذا أفعل، ابتسمتُ ابتسامة باهتة ذابلة وأنا أقوم واقفا لأقول لعبد الله: مبارك!

_

 اضطربتْ نظراتي وتهرّبت بها وأنا أحاول الخروج من الغرفة غير قادر على تمثيل الهدوء والواقعيّة،
 فقد كنت أشعر أنني سقطت من مرتفع شديد الانحدار ولا أزال أسقط حتى فقدتُ قدرتي على أخذ أنفاسي.
وجدتُ عبد الله يُمسك يدي بثبات ثم يقول بلهجة متفهمة رحبة: ولكن هذه الكلمة لم يكن ينبغي أن توجّه لي يا بلال!
نظرتُ إليه بحدّة وضاقت عيني وأنا أقول هامسًا: ماذا تقصد؟!
ابتسم ابتسامة واسعة وهو يُشير إلى الدكتور بكر الجالس بجانبي: عليك أن تبارك للدكتور بكر بزواجه من أمّي.
اتسعت عيناي على أشدّها وارتفع حاجباي إلى الأعلى بقوة، الدكتور بكر تزوج أم عبد الله؟!
هذا يعني.. أنهم يعيشون مع بعضهم؟
نظر إلي نظرات مؤكدة، وهو يقول بابتسامة صافية:
 في الحقيقة يا بلال لا يحلّ لي النظر إلى عبير رغم أن دكتور بكر تزوج أمي، 
ولكنني أجنبيّ عنها تمامًا، قلت ذلك لكي أتأكد من شيء في قلبي وها قد تأكدت، وفي الحقيقة ليس بيني وبينها أي شيء!
  فانهارت قدمي بوهن وأنا أجثو بركبتيّ أرضًا، على الفور قام عبد الله جالسًا إلى جانبي أرضًا وأطلّت نظرات القلق من عيني بكر، 
لكنني ابتسمت براحة كبيرة وأنا أضع يدي على قلبي المضطرب لأقول بانشراح صدر: هذا مطمئن، أنا سعيد حقا، الحمد لله!
ثم رفعتُ رأسي أخيرًا وقلت للدكتور بكر بامتنان شديد: 
مبارك لك يا دكتور بكر، أنا حقًّا.. لا أعلم ماذا أقول لكنني مسرور لأجلك، ومسرور لعبير أيضا!
قال بكر شاكرًا وهو ينظر إلي برفق:
 بارك الله فيك يا بلال، سامحنا على تعب الأعصاب الذي واجهتَه بيننا، لكن كما قال عبد الله فإن هذا الموقف بيّن الكثير.
وابتسم ابتسامة خاصة مُشاكسة شعرتُ بالإحراج وأنا أحاول تجاهلها، 
هربتُ بوجهي طوال وقت الإفطار في طبقي وطعم الفطير يذوب في فمي دون أن أشعر بحلاوته، كان تركيزي مشتتا.
صلّينا الجمعة مع بعضنا ولكنني في طريق العودة انتبهتُ لاختفاء عبد الله وبدأ التوتر يحلّ علي حين قال بكر بلهجة غامضة:
 إذن يا بلال هذا ما كنت تريده مني؟
ابتسمت ابتسامة متوترة قائلا: ماذا تقصد ما أريده؟
شرد بعينيه الصافتين في السماء، ونظر إلى منزله البعيد في آخر الطريق الذي نسير فيه قائلا بهدوء:
كنت تريد أن تطلب مني أمرًا!

اضطربت وأنا أشعر بانعقاد لساني، تذكرتُ كلمات عدنان عن الشجاعة وما إلى ذلك، 
فاستجمعتُ قوتي وقلتها صريحة بعد أن توقفت وأغمضت عيني: أريد أن أطلب منك يد عبير!
توقف بكر أمامي ثم قال بدهشة: يدها فقط؟
نظرتُ له بعدم فهم والعرق يغمر جبيني، فقال وهو يمثّل التفكير العميق:
كنت أظنّك تريدها شخصيًّا! لم أكن أعلم أنك تريد تجزئتها هكذا!
اتسعت عيناي عندما فهمتُه وضحكتُ بإحراج مغمغما: 
بالطبع لا يا دكتور بكر، أنت تفهم قصدي.
أطلق ضحكة قصيرة جميلة ونظر إلي نظرات أبويّة حنونة ثم قال وهو يُربت على كتفي: 
نعم يا بني، أفهم قصدك جيدًّا!
ابتسمت باطمئنان وقد خفّ بعض توتري بسبب مزحته، ربما لو كان جدّيا لأصبت بالاضطراب أكثر.
ثم عاد للسير إلى جانبي وهو يقول بجدّية: إذن.. اسم الأخ الكريم؟
التفت إليه بدهشة فقال مبتسما: عليك أن تعرّف نفسك لي، ألا تريد أن تتزوج ابنتي؟
فوجئت بجدّيته في الحديث، رأيته ينتظر إجابتي بهدوء، ابتسمت وأنا أقول بشجن: 
أعتقد أنك تعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، لقد نشأت تحت يديك يا دكتور بكر.
التفت إلي وكأنه مصدوم، فتوقفتُ وشفاهي ترتجف بابتسامة باهتة، لانت ملامحه فجأة وهو يقول بانهيار: 
بلال.. لقد.. أصبحتَ كبيرًا!
لم أعلم بم أردّ، ما تأكدتُ منه هي دموعي التي أغرقتْ وجهي حين احتضني بقوة، كان يبدو وكأنه يعاني انفعالات شتّى،
شعرتُ أنا بانفعالات مشابهة، لم أعلم كيف أعبّر عنها، ولم أعلم حتى كيف أمنعها، 
فالدموع جرتْ على الفور لتسقط على كتف بكر وأنا أستند إليه بعينين مشوشتيْن، لم أعلم ماذا جرى لي ولا ما الذي جرى للدكتور بكر!
كل ما أستطيع تذكره هو تلك الذكريات المُؤلمة، في قسوة حياتي صغيرًا، ثم رحمة الدكتور بكر وصبره عليّ، 
إرادته القويّة والمستمرة بالاحتفاظ بي رغم كوارثي التي تهلّ على رأسه بمجرد مرافقتي له لأكثر من عشر سنوات.
التمّ علينا بعض الناس في الشارع لتهدئتنا وتصبيرنا، ظانّين أننا سمعنا خبر وفاة أحد ما، 
ابتسمتُ بصدق من بين الدموع التي أغرقت وجهي، إنهم لا يعلمون أنها دموع فرح وامتنان.. وشكر لله على نعمه.

تم عقد القران ولا داعي لذكر التفاصيل، كنتُ محرجًا في البداية من نظرة عبير إلي أن أكون بالنسبة لها أقل فهمًا وعلمًا وأقل إدراكًا،
 لكنها كانت تنظر إلي وكأنني بطل، حين رفعتُ الملعقة إلى فمها لأطعمها من كعكة عقد القران قلتُ بلهجة خاصة: 
لا تحاولي أن تردّي الدين مرتيّن. لقد رددتِه وانتهى الأمر.
لأول مرة ضحكتْ بشدة وهي تتذكر ما حصل منذ عشر سنوات حين حاولت هي في البداية إطعامي وضربتُ الملعقة بثورة 
ثم أعادت هي لي الجميل حين حاولت إطعامها أيضا وقد سقطت من أعلى السلّم، 
ولكنها كانت تمزح بالتأكيد وتحاول دفعي للإحساس بموقفها حينئذ.
كانت عبير كما هي، رقيقة ولطيفة للغاية، لكنها ازدادت جمالا منذ آخر مرة، 
لا أدري أهي نظرتي أم أنها بالفعل ازدادت؟

_

ارتمى بلال بجسده المتعب على الأريكة وهو يتنهد، نظرتْ رقية بإشفاق إلى وجهه المُنهك وهو يفكّ ربطة عنقه 
ويخلع سترته الرسميّة ليضعها جانبًا ثم ينحني بشغف وعيناه تلمعان ببريق خاص 
ليحمل زهرة ذات الثلاث سنوات المنشغلة باللعب في لعبة قطار ملوّن جميل.
ندت من زهرة الصغيرة بضعة جمل غير مفهومة تعبّر عن اعتراضها لما فعله خالها من قطع لعبتها،
 لكنها تناست ذلك سريعًا وهو يُدغدغها بحيوية وبهجة لتنطلق ضحكاتها الحلوة تُطرب أذنيه.
ابتسم بحبور وهو يراقب وجهها البريء وبشرتها الناعمة التي تتجعد عندما تضحك بشدّة، 
قالت رقية بحنان أخيرًا لتقطع ضحكات الطفلة: بلال هل أحضّر لك الغداء الآن؟
هزّ رأسه نفيًا دون أن يلتفت إليها، ثم قال بلهجة هادئة: صائم اليوم.
تذكرتْ أن اليوم هو الخميس، وعادته الصوم كل اثنين وخميس، ابتسمت في تأثر وهي تقول: 
ولكنك أهلكت جسدك منذ البارحة في العمل، حتى أنك لم تنم نصف ساعة قبل ذهابك إليه، ليس من الجيدّ إرهاق نفسك هكذا!

زفر بحرارة وهو يشعر بالدوار لمجرد كلماتها، بدلا من أن تشجعه وتصبّره، تهيأ للتوبيخ، لكن رقية قالتْ بعطف:
 أعلم أنك تريد تجهيز ميزانية مناسبة للتوأم الذي تحمله عبير، لكن القسوة على نفسك ضارّة أحيانًا.
نظر لها بامتنان والتفت إليها أخيرًا، ثم قال لها بابتسامة واسعة نجح فيها بإخفاء إرهاقه: 
رقية يا حبيبتي، لا تنسي أنني لتوّي قد استلمت ترقية لأكون مدير العمل، فتزايد ضغط العمل عليّ لكن بالمقابل زادتْ أرباحه، 
ولله الحمد هذه فرصة مناسبة لادّخار مبلغ جيد لأحداث الأيام القادمة.
ثم قال بشوق ضاحك: 
لقد حذّرني عدنان مرارًا من أن تكلفة الحفاظات من الممكن أن تعادل راتبي كلهّ!
ضحكت رقية هذه المرة وهي تقول: 
عدنان لا يُجيد إلا إلقاء النصائح لك بحجة أنه أخوك الأكبر بينما هو يجلس لمشاهدة التلفاز والانترنت طوال اليوم،
 يا له من مشاكس!
ضحك بلال معها بينما هي اتجهت لتشاركه الجلوس بجانبه، سألها وهو مازال يُلاعب طفلتها: 
أين عبير إذن؟
ابتسمت بحماسة: كما تعلم أنها تشعر بالحر طوال اليوم، إنها تأخذ حماما لتنشط، أعانها الله على شهرها السابع،
 والله لم أكن أتحمّل نفسي في هذا الشهر وأنا حامل في زهرة، فكيف وهي حامل في زهرتين؟
كانت أم عبد الله ورقية تتناوبان فيما بينهما على زيارة عبير للاطمئنان عليها ولتسليتها أيضًا، 
وقد طلب بلال منهما ذلك حتى لا يشعر بالذنب حين ينشغل بعمله عنها.
 ضحك بلال ببهجة ثم أطرق برأسه في شجن، 
وكلما تذكر أن هناك نطفتين سيُصبحان أطفاله يطير قلبه ويخفق بشدة حتى يشعر بألم! 
شعور الأبوّة شعور مخيف ولذيذ في الوقت نفسه!
تنحنحت قليلا قبل أن تقول: بلال، لقد طلبتُ من زيْد أن نذهب جميعًا في عطلة الصيف إلى مكة،
 سأعمل عمرة لوالديّ رحمهما الله.
سكت بلال هذه المرة بهدوء، راقبتْ رقية ملامح وجهه بتركيز لتعرف ردّة فعله، فوجئت به يقول بتأثر: 
نعم، رحمهما الله.. أرجوك افعليها يا رقية.
كان بلال هو أكثر من يكره أبويه سابقًا، الآن يشجعها على عمل عمرة لهما وعلى وضع الصدقات الجارية لروحيهما،
 كان يقول بأسى: لقد كان أمي وأبي سببًا ما في إحدى مراحل حياتي للانتحار، ولكنهما الآن لم يعودا السبب، 
بل إنني سعيد لأنهما أنجباني في هذه الحياة، لو لم أكن مولودًا لما عرفت الدكتور بكر ولا عرفت عبير..
 لم أكن لأعرف كل تلك الحياة! لذلك سأظل أدعو لهما بالمغفرة والرحمة، عسى الله أن يعفو عنهما ويغفر لهما سيئاتهما.
بعد دقائق استأذنت رقية لتفقد القدر على النار، 
تركتْ بلال الشارد في وجه زهرة التي هدأت واستسلمت في حضنه وراحت تقاوم رغبة النعاس القوية التي تهجم على عينيها.
خرجتْ عبير من الحمام وهي تهتف: آه ما أجمل شعور الاستحمام في يوم حار كهذا!
ابتسمت رقية من أمام الموقد وهي تقلّب ما في القدر، نادتها لتسألها عن أماكن بعض البهارات لكن عبير قالت بلهجة خاصة:
 أعتقد أن عليّ البحث في الصالة أولًا.
أسرعت عبير إلى بلال لتفاجئ به نائما على الأريكة في هيئة الجلوس وفي حجره زهرة ترقد بسلام، 
ابتسمت وهي تفكر في كمية التعب اليومية التي يلاقيها بلال في عمله من أجلها، 
قبّلت الاثنين على جباههم وأسرعت إلى رقية.
ما إن وقفت بجانبها في المطبخ حتى قالت لها ضاحكة: تصوري ذهبتُ ووجدت بلال ماذا؟
ضحكت رقية بقوة: نائمًا بالطبع! هل تعتقدين أنه سيستسلم لشيء غير ذلك؟

_

" بلال.. بــــلاال"
كان هناك صوت متكرر يطرق رأسي بإزعاج، ظللتُ أحاول استيعاب المطلوب مني، 
في النهاية فتحتُ عيني بإرهاق وأنا أشعر برأسي الثقيل للغاية،
 لم أعلم ما هو المطلوب مني إلا حين سمعتُ نفس الصوت يقول بلهجة دافئة: هل أنت بخير؟
فتحتُ عيني بسرعة لأجد الدكتور بكر أمامي، كان هو من يتولّى إيقاظي،
 كدت أن أقفز لأقف أمامه لولا يده التي تثبّت كتفيّ في مكانهما، قلت بصوت مبحوح:
 دكتور بكر، كيف.. أنت هنا الآن؟ أقصد.. لم لم تخبرني حتى نجهّز المكان لاستقبالك؟
ابتسم ابتسامة لطيفة قائلا بوجهه الصبوح: ولكنّ المكان قد جُهّز بالفعل يا بلال.
ثم تنحّى جانبًا ليُفسح لي المجال لرؤية تلك الطاولة التي تنتصف الغرفة وعليها كعكة صغيرة كان عبد الله يعدّل الأطباق بجانبها،
 لم أفهم شيئًا، اضطربتُ وأنا أعيد شعري للوراء قائلا بعدم فهم لبكر: لم أفهم؟ ما المناسبة؟ لماذا عبد الله هنا أيضًا؟
انتبهتُ في تلك اللحظة أن ثقل زهرة الصغيرة التي كانت نائمة في حجري قد زال، 
وكذلك ألعابها في الصالة أمامي قد جُمعت في حقيبة أطفال أنيقة على الجانب، 
كان عبد الله مشغولًا بتزيين الأطباق وكنت أراقب الدكتور بكر بلهفة للحصول على أية إجابة،
 رفع عبد الله رأسه قائلًا بمرح: مبارك ترقيتك أيها المدير!
فتحت عينيّ بذهول، قلتُ: لا تمزح معي عبد الله، كل هذا لأجل الترقية فقط؟ أنتم تمزحون!
جلس الدكتور بكر إلى جانبي قائلا: ليس لأجل الترقية فقط، 
بل لنجلس معك قليلًا قبل مجيء الزهرتين اللتين ستقلبان حياتك رأسًا على عقب حتمًا.
ثم ضحك قائلا: وحينها لن نستطيع الجلوس معك بكل هذه البساطة!
كدتُ أن أبتسم لولا صوت عالٍ من وراء رأسي ويدان تقيدان عينيّ، لاحظتُ قبلها جلبة قوية، 
وكأن شخصًا يحمل أثقالًا، قال عدنان الذي أمسك عينيّ: هياا.. المفاجأة التالية بعد كعكة عبد الله!
لم أحاول إبعاد يديه عن عيني، ربما لأن جسمي ثقيل،
 ضحكت بدون صوت على ذلك الحماس الذي يُحاول أن يضيفه عدنان في الموقف، 
رفع يديه لأرى زيد يلهث وقد وضع صندوقًا كرتونيًّا كبيرًا على جانب الصالة، 
مسح العرق الوهمي عن جبينه وهو يمسح على الصندوق بيده قائلا بزهو: هديتي هي أكبر هدية فيهم جميعًا.
نظرتُ إلى زيد بدهشة فقال عدنان وهو يميل برأسه من خلف الأريكة إلى جانب رأسي: لكنها أبطأ الهدايا وصولًا.
قال زيد بعدوانية مازحًا: لأن الملكة تصل دائمًا متأخرة. هاهاها.
ضحك عبد الله بعلوّ بينما سمعت ضحكة بكر الخافتة بجانبي وابتسمتُ أنا بصدق وأنا أتأمل هدّيته.
كانت هدية زيد عبارة عن كرسيّين صغيرين لطفلين غير قادرين على المشيْ، كان واضحًا من الزينة أنها لبنتيْن.
 اتسعت عيناي وأنا أنظر إلى الرسومات فوق الكرتون، فوجئت بالدكتور بكر يقول من جانبي مرحًا: 
يبدو أن زيد سرق الأضواء، يجدُر بك يا بلال النظر قليلًا إلى الجانب الأيسر.
التفتت ببطء وأنا أشعر بأن هذا كله فوق طاقتي بالفعل، ظهرتْ على وجهي ملامح الإحباط حين رأيت هدية الدكتور بكر، 
على مسند الأريكة التي أجلس عليها!!
كانت هديتين صغيرتين، علبة قطيفة حمراء ومثلُها زرقاء، كل واحدة فيها قرط ذهب!
نظرتُ إلى الدكتور بكر لائمًا، لم يكلّف نفسه هذه التكلفة؟
لكنني كنت أعلم أنني إن سألتُه فلن يكون سعيدًا بردّي قدر سعادته بقبولي لهديّته، 
كان القرطان مختلفين عن أحدهما الآخر في لون الفصوص فقط، سألت الدكتور بكر عن ذلك فقال ضاحكًا: 
لكي تعرفهما بالفصوص إذا تهت بينهما!
ضحكت ضحكة خفيفة بامتنان، بينما أغلقت العلبتين وقلت بضيق حاولت إخفائه: ولم كل هذا من أجلي؟
قال دكتور بكر: هذان القرطان ليسا لك، وإنما لحفيدتيّ!
ثم نظر إلي نظرة خاصة، فضحكت بشوق.
تنهد زيد وهو يضيف قائلا: في الحقيقة أنت محسوب عليّ كأخ لزوجتي، ولهذا يجب علي مجاملتك قليلا!
ابتسمت لأول مرة دون انزعاج من ردّه، كنا دائما نتبادل الردود حتى في الهدايا، هذه المرة سأكتفي بشكره،
 شكرًا صادقًا وعميقًا، لأنني تعبت، وأعصابي انتهت بسبب هؤلاء الذين من حولي.
كانت عبير ورقيّة في غرفة الضيوف، كل واحدة منهما أيضا أعدّت لي مفاجأة،
في الحقيقة أنا أعتقد أنني لا أستحق أي شيء، 
ولو كان على أحدهم إهدائي شيئًا فربما كان من اللائق بي محفظة مهترئة أو حزام من إحدى متاجر الجملة.
همس عدنان في أذني ليغيظني: على فكرة لا تظنّ أن هذه الهدايا لك، هدية زيد والدكتور بكر للحلوتين القادمتين إن شاء الله، 
وكعكة عبد الله سنأكلها جميًعا، أما أنا فهديتي بالداخل. لا تفقد أعصابك هكذا خد الأمور بهدوء وتلقائية.
فُضحت نفسي أمام عدنان والتفت إليه: أنت تحاول أن تقللّ تقديري من نفسي!
ضحك عدنان وهو يقول: أنت من تظنّ أننا نبالغ في الهدايا، لذلك كان عليّ تقديم هذه الملاحظة!
دخلتُ لغرفة الضيوف ريثما يقطع عبد الله الكعكة ويوزعّها على الأطباق، أول شيء وجدته هي زهرة الصغيرة وهي تركض نحوي.. 
آه، يا له من شعور جميل!
كانت هدية عدنان بطانيّتين صغيرتين للتوأم أيضًا وليست لي،
 ضحكت بشدة حين عرفت أن هدية رقية هي طبق فواكه كبير لملاحظتها أنني أشرب القهوة كثيرًا الأيام الماضية، هذه المرة لي! 
وكذلك أم عبد الله قد قدّمت هدية لذيذة حينما عرفت أنني أحب الفطير المشلتت بأن صنعت لي منه عدة فطائر، هذه الهدية لي.
أما عبير فقد كانت هديتها.. هو التوأم نفسه!
ضحكت كثيرا وأنا أقول لها بحنان: أنت مخادعة، كان عليك إحضار هدية ما، هذه الهدية من الله لنا! فكيف تهدينها لي؟
قالتْ وهي ترفع حاجبيها لتتفلسف: وكل شيء لنا هو هدية من الله، فكيف نهدي الهدايا لبعضنا إذن؟
قلتُ لها ضاحكًا: لقد أفحمْتني يا ابنة أبيك!
حسنًا، اليوم كلّه قضيته بين ابتسامات وضحكات، كنت أهددهم جميعا وهم يأكلون الكعكة أن يُبقوا لي أكبر نصيب حتى أتأكد أنهم يحبّونني..
فالمغرب لم تأت بعد، وكان زيد ينادي على عبد الله أن يزيد في حجم نصيبه لتنتهي الكعكة وأتأكد أنهم يكرهونني...!
لكنني كنتُ متأكدًّا، جدا، أنهم يحبّونني، كما أحبّهم!
توقفتْ فجأة قبل أذان المغرب وعدنان يضع لي طبق التمر والجميع يجلس بأحوال شتّى في المجلس،
 الدكتور بكر يقرأ بعض الأوراق وزيْد يضحك مع زهرة، عبير ورقية في المطبخ تعدّان لي بعض الطعام،
 اتسعت عيناي وأنا أنظر إلى الجميع،
 يا إلهي،


 كم أحبكم!
_


النهاية!
تمت بحمد الله

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم