أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الخامس)


رواية أنا أكرهكم

رواية أنا أكرهكم (الجزء الخامس)

رواية أنا أكرهكم (الجزء الخامس)

(5)


الشيء الذي حصل حين جاء بكر ليخرج من المسجد بعد صلاة الفجر، أثناء ارتداء حذائه،
وجد عبد الله يأتي مُسرعا ليدخل المسجد ويبدو أنه تأخر ولم يلحق الإمام، جاء ليخلع حذاءه، فابتسم الدكتور بكر وناداه:
عبد الله، ما بالكُ اليوم؟ تأخرتَ عن الجماعة؟
ابتسم عبد الله إحراجا ثم غمغم: لقد استيقظت متأخرا.
هزّ بكر رأسه مهوّنا ومتفهما وهو يقول: لا بأس ادخل لتلحق بجماعة أخرى جاؤوا متأخرين أيضا.
ثم همّ بالمُضيّ، فناداه عبد الله: دكتور بكر، هناك شيء أود سؤالك عنه.
التفت بكر متسائلا، فقال عبد الله حائرا:
لقد وجدت فتى يخرج من منزلك يده مكسورة ويعرج في مشيه، وجهه مملوء بالكدمات والجراح، لقد..
اتسعت عينا بكر وهو يقاطعه: يخرج من منزلي أنا؟
أومأ عبد الله برأسه، فصاح: يا إلهي!
ثم ركض مبتعدا بسرعة وسط دهشة عبد الله الشديدة.
وتساءل في داخله:
من هذا الفتى يا ترى؟
لابد أن هناك علاقة ما بينه وبين الدكتور بكر وإلا لما ركض بهذه الطريقة قبل أن يُكمل كلامه معي حتى!

أما بكر، فقد خطر في باله ألا مكان هنا في هذه القرية يعرفه بلال سوى المكان الذي صدمته السيارة،
رغم أنه لا يعرف طريقه، ولكن بسهوله يستطيع رؤية المزارع الممتدة على جانبي الطريق
فيعرف أن هذا الشارع هو المكان الذي اصطدم به، على الفور اتجه إلى هناك،
رأى شجرة خلفها ظل أسود لشخص صغير في السن، فاتجه لها، شاهد بلال وهو يجرح يده ويجرب السكين
ثم يرفعها عاليا ويصرخ بقوة ويوجهها إلى قلبه،
فأسرع يُحاول إنقاذه مُمسكًا بالسكين في آخر لحظة قبل أن تخترق صدر الفتى.

عندما عاد بلال إلى المنزل، وهو يدخل في النوم العميق، فكر الدكتور بكر، ما سبب اتجاهه إلى الانتحار فجأة هكذا؟
ربما سمعني أنا وعبير ونحن نتكلم عنه، فظن بسبب جملتي أنني لن أسمح له بالانتحار في نهاية المطاف ففعل فعلته تلك.

كانت عبير تضمد له يده، التفت إلى بلال الذي استسلم للمهدئ وفي طريقه ليُغمض عينيه،
كانت الدموع ما زالت تجري على خدّيه الحمراوييْن، مدّ يده ليمسح دموعه بحنان،
وشعر رغما عنه بإشفاق شديد عليه، هذا الفتى صغير السن،
من المفترض أن يرى فيه ملامح المراهقين الذين يُحبون الظهور ويتفاخرون بأنفسهم ويعجبون بها،
ويريدون استغلال أي فرصة لإثبات وجودهم والحصول على المدح والثقة والتقدير ممن هو أكبر منهم!
مثل عبد الله جاره، فهو في الخامسة عشر أيضا، مراهق طبيعي تماما.
لكن بلال، رافض لحياته بقسوة، لديه عقدة نفسية حقيقية من شفقة الآخرين عليه.

غمغم بكر بتأثر: يا إلهي من الذي سلب بلال حياته الطبيعية؟ إنها جريمة بكل المقاييس.
نظرت إليه عبير، ثم قالت عاتبة: أبي، لقد تهورت كثيرا اليوم وجرحت يدك بسبب هذا الفتى السيء!
نظر بكر بسرعة إلى ابنته: لا يا حبيبتي لا تقولي عنه ذلك أبدا.
قالت محتجة: ولكنه جرحك في يدك يا أبي!
قال لها مبتسما: ليس بسببه هو، صدقيني. ليس بسببه هو.
نظرت له بلوم، وهي تهتف:
ماذا تقصد؟ أليس هذا الجرح بسبب أنك حاولت منعه من الانتحار؟ ألم تقل لي ذلك قبل قليل وأنا أضمد يدك؟
تنهد وهو يشرد بنظره إلى ذلك الفتى المُلقى على السرير المدعوّ بـ بلال، ثم يهمس لـعبير:
عبير، كيف أشرح لك أنني ممتن لله عز وجل أنني قابلته هنا؟
لم يكن بوسع عبير إلا أن تتسع عيناها دهشة واستغرابًا!

_

" هل أنهيتَ وجبتك؟"
قالها الدكتور بكر، نظرتُ إلى صحن الحساء الفارع ثم نظرتُ له بعينيَّ اللتين كانتا خاليتين من أي بريق يدل على الحياة!
وقلتُ ببرود: نعم.
حمل الصحن وانطلق إلى الخارج، أما أنا فقد أسندتُ رأسي ورحتُ أتأمل السقف، إنه دنياي الوحيدة هنا!
عندما استيقظتُ عصرًا أكلتُ وجبتي وها أنا لا أعلم ماذا أفعل! إن الحياة لا تناسبني أبدا!
وجدتُ الدكتور بكر يدخل وهو يحمل علبة الإسعافات، ثم قال:
أعتقد أنك قلت لي اليوم أن قدمك تؤلمك وكأنها مشلولة، هل أستطيع أن أراها؟
هززتُ رأسي أي نعم، فاقترب من إحدى قدمي، فقلتُ موضّحا: إنها اليُسرى.
نزع الضمادات عنها ثم فحصها قليلا وسألني عن موضع الألم بالضبط فأجبته فقال مبتسما: حسنا إذن تحمّل قليلا فقط..
لاحظت يده اليمنى المصابة، كانت مضمدة، ويبدو أنه يعمل بها بشكل طبيعي رغم الجرح الذي أصبتُه بها.

أمسك قدمي بكلتا يديه وفعل شيئا ما، جعلني أطلق آهة ألم، يبدو أنه قد أدار العظم! ماذا فعل؟
ثم قال لي: لقد تحركت إحدى العظام بشكل خاطئ وهذا ما سبب لك الألم، الآن حاول أن تمشي عليها!
تنهدتُ بملل، وأنا أزيح الغطاء عني ثم أقف عليها، ولدهشتي الشديدة لم أشعر بأي ألم..
عادت قدمي لحالتها الطبيعية..
نظرتُ له مستفسرا، فقال ببساطة، وهو يرمي الضمادات القديمة:
أنا طبيب نفسي ولكن لدي بعض الخبرة في العظام من طبيب عظام كان صديقا عزيزا لي،
وقد حصل لي هذا ذات مرة فوجدته يفعل ذلك وبعدها تعافيتُ ولله الحمد..
ثم مدّ يده لي بالضمادات الجديدة مغمغما: هل بإمكاني تضميد قدمك فجراحها لم تُشفى بعدُ.
أومأتُ برأسي موافقا وجلست على السرير ومددتُ قدماي،
ورحتُ أنظر له وهو يضمدها باهتمام وتركيز رغم أن عقلي في عالم آخر بالكليّة.

إنني أفكر في أختي رقية التي تركتُها وحيدة بائسة، هل أمي وأبي الآن يبحثان عنّي أم أنهما نسياني؟
تنهدتُ بكآبة كل ما تذكرتُ أصلي ومن أين أنا قادم، علي ألا أعود إليهم أبدا مهما كان الثمن..
هذا لو بقيت على قيد الحياة، ولهذا أنا حريص على أن أعمل بجد لكي أدفع الثمن للدكتور بكر
ثم أنتحر وأتخلص منهم ومن الهم الذي يُعشعش فوق رأسي بسببهم، فإذا حاولوا أن يبحثوا عني ووجدوني
فلن يستطيعوا فعل شيء لي لأنني حينها أكون قد متُ!

قطع أفكاري صوت الدكتور بكر وهو يضمد قدمي: بلال.. هل لي أن أسألك سؤالا؟
نظرتُ له باهتمام وأنا أحدّق في عينيه الجادتين، فقلت: نعم!
نظر إلى قدمي قائلا: إن قدمك مصابة بجروح كثيرة وكدمات متعددة،
وأيضا جلدها خشن جدا وكأنك لم ترتدِ حذاءً أبدا في حياتك، ومن يرَها يجزم أنك تعيش طول عمرك سائرا على قدميك.
نظرتُ له بحدة وتوتر نبض قلبي وأنا خائف أن يستنتج من كل هذا الكلام وظيفتي الأصلية، ثم قلتُ بانزعاج:
أين هو السؤال الذي قلتَ؟
فقال متنهدا: ماذا كنتَ تفعل قبل أن تصدمك تلك السيارة؟
عقدتُ حاجبيّ بضيق وحدة وأنا أُبعد أنظاري عنه، فعاد يُكمل التضميد وهو يقول بهدوء:
على كل حال لك مطلق الحرية في الإجابة عن هذا السؤال، فلا يـ...

"كنتُ أهرب"
قاطعته بتلك الجملة المقتضبة فرفع رأسه في دهشة ونظر إلي، فقلتُ له بعدوانية:
لقد كنتُ أهرب من منزلي! هذه إجابتي.. هل لديك شيء آخر؟ ألديك اعتراض؟
بعد أن كانت حاجباه مرفوعة على أشدها نزلت فجأة إلى الأسفل وارتسمت ابتسامة على شفاهه قائلا:
بالطبع ليس لدي أي اعتراض..
لا أدري لمَ هذه الثقة في صوته جعلتني أرتبك أكثر وهربتُ بنظري إلى الخزانة التي بجانبي وأنا ألتزم الصمت،
سكتنا هذه المرة مدة طويلة، أنهى الدكتور بكر تضميده وراح يضع أدواته في علبة الإسعاف ويرتبها وأثناء ذلك قال:
وأنت.. أليس لديك أي استفسار؟ أو أسئلة؟
قلتُ مفكرا وقد جاءت لي صورة يده تمتدٌّ إلى وجهي قبل أن أسقط في غيبوبتي: آه.. نعم..
كنت أنوي أن أسأله عما كان يريد فعله لي قبل أن أنام، ولكنني شعرت أن هذه سخافة..
فقلت مترددا: ماذا حصل لأم عبير؟
زفر زفرة حارّة ثم قال: أنت إذن مصر على أن تعلم قصتها، حسنا.. سأخبرك.
ثم أغلق علبة الإسعافات وجلس على كرسي قريب قائلا: أم عبير قد ماتت منذ سنتين في الحقيقة.
لم تبدُ على وجهي أي علامات للتأثر فقد كنتُ أتوقع ذلك، فأكمل: ماتت في حادث سيارة.

عندئذ نظرتُ إلى عينيه، كان يقول ذلك بحزن، ثم أضاف:
تزوجتها بعد تخرجي من كلية الطب، وأنجبت لي عبير، ومنذ سنتين فقط،
حصلت مشاكل في عملي وكنتُ خارجا مسرعا بسيارتي أنا وزوجتي وابنتي،
وحينها صدمتنا سيارة وتوفيت زوجتي رحمها الله وبقيت لي عبير،
خرجنا من ذلك الحادث بإصابات بالغة وبالطبع إصابة قلوبنا بفقدان زوجتي وأم عبير كانت أشد..

ثم سكت ونظر لي منتظرا الكلام الذي سأقوله له، فقلتُ: وهل لهذا الحادث علاقة بأنك توقفت عن عملك كطبيب نفسي؟
نظر لي بدهشة وقال بحذر: ولماذا تعتقد ذلك؟
ضحكت بداخلي ساخرًا، هذا الرجل مُخادع حقا!
قلت ببرود: تخمين فقط، أريد أن أنام!
فقام من كرسيه متفهما وقال: نعم بالتأكيد فالمريض عليه أن يرتاح.
خرج من الغرفة وخرجتْ بعده كل أحاسيسي وشكوكي فيه، إنه بالتأكيد يُخفي عني شيئا،
لقد توقف عن عمله النفسي لسبب ما، وراح يعمل في متجر للعطور،
وفي قصته الملفقة تلك لا يوجد أي سبب يدعو إليه أن يتوقف عن عمله، أو حتى يغير مكان سكنه،
فلابد أنه كان يعيش في مدينة وليس قرية كهذه!

تأففتُ وغمغمتُ: وما دخلي به الآن، علي أن أركز طاقتي لأتماثل للشفاء وأحقق ما أردته،
وليس علي الاهتمام بأمور كتلك.


_

 استيقظتُ في الليل على صوت عبير، كانت تقول باعتراض مازح:
 لقد نمتَ كثيرا يا بلال، قم وحرّك جسدك قليلا وتناول الطعام حتى لا تصاب بالخمول.
الآن ماذا تريدُ مني؟ يا لها من غبية، ألا تعلم بأن المريض يحتاج الراحة؟
قمتُ بتكاسل وأنا ما زلتُ أغمض عيني، فشعرتُ بيدها تمتد خلف ظهري وتفعل شيئا ما ثم تقول:
هيا.. استند إلى ما ورائك.
فتحتُ عيني بصعوبة وأنا أشعر بأن جفناي ملتصقان من شدة النعاس والخمول..
 رحت أحاول أن أنظر إلى ما يجري في الغرفة.. 
فامتدت يدها الصغيرة بسرعة ودفعتني على صدري لكي أعود إلى الوراء وأستند إلى الوسادة التي خلفي، 
غمغمتُ بانزعاج وأنا أفتح عيني على اتسّاعها: ما بك.. ماذا تفعلين؟
قالت لي ضاحكة: 
أنت بطيء جدا يا بلال، في الوقت الذي ستفتح به عيناك وتتثاءب سيكون حساء الخضروات الذي صنعته قد برد،
 فنحن في الشتاء.

بمجرد انتهاءها من كلامها حتى وجدت صينية تستقر على حجري 
وتلك الفتاة المزعجة كثيرة الحركة تضع عليها ملعقة ثم ثوان قليلة وفوجئت بملعقة تحاول اقتحام فمي بعنف..
أمسكتها مفزوعا وأنا أنظر إلى عبير التي ضحكت في مرح وقالت: هيا.. بسرعة كُل..
 شعرتُ بالغضب منها، أبعدتُ يدها بحنق وأنا أغمغم: لا تحاولي أن تجتازي حدودك معي أتفهمين؟
أجفلتْ قليلا ونظرتْ لي بخوف.. 
فأنزلتُ ملعقتها وسكبتهُا على الصينية وهي تتابعني بنظراتها متسعة العينين، ثم أخذتُ ملعقة أخرى وأنا أقرّبها إلى فمي
 وأنتظرها أن تتكرم وتذهب من أمام وجهي..
 ظننتُ أنها خافت من لهجتي الجدّية، لكن استغربتُ جدا أنها بعد أن تناولتُ أول ملعقة وجدتها تنظر لي بلطف،
 وشعرها البنيّ من ورائها ضفيرة طويلة تتدلّى بجانبها وهي تميل برأسها قائلة في ترقب: هل أعجبك طعمه؟
دُهشتُ كثيرا، إذن هي لم تخف مني! قلتُ متظاهرا بالقرف رغم أن طعمه أعجبني: لا.. إنه سيء للغاية.
ظهر على وجهها الإحباط، أحمد الله! أخيرا ستغضب وتتركني.
لكنها قالت بحماسة شديدة عندما رأت ملعقتي تتجه إلى طبق السلطة: آه أخبرني رأيك بها، لقد صنعتها بطريقة جديدة.
عبستُ في وجهها، ثم أكلتُ ملعقة، كان الأكل شهيا، ولولا أنها تنظر لي لأكملت الأكل بشراهة،
 ولكن هذا العائق الذي يجلس بجانبي يمنعني عن الأكل كما أحب.

بعد صمت طويل مني وأنا أتجاهل أسئلتها وجدتُ فمها يتقوس حزنا وتقول: لم لا تكلمني؟ هل أنا سيئة إلى هذا الحد؟
نظرتُ إليها وتذكرتُ أختي زهرة، عندما تغضب مني لأنني لم أحضر لها حلوى التوفى ببقايا المال الذي سرقته.
لانت ملامحي وأنا أقول بلا مبالاة: أين الدكتور بكر؟
استبشرتْ خيرا وهي تجيب على الفور:
في العمل، لقد خرج بعد العصر ليقف في متجره قليلا، وبعد أن خرج بدأت في صنع حساء للعشاء، وسلطة خضروات، ياه أتعلم؟
 لقد مكثتُ وقتا طويلا في التقطيع: للحساء وللسلطة! ولكن في الحقيقة إنه شيء ممتع، أنا أسمع شرائط في جهاز التسجيل ولا أضيع وقتي. اليوم سمعت شريطا عن قصص الصحابة، قصة عبد الله بن عباس. كانت رائعة!

يا ويحي، كأنها نافورة فُتحت فتدفقت بسلاسة دون أن يوقفها أحد.
هممم ولكن، إنها تحكي وهي مسرورة جدا، أعتقد أنني لن أخسر شيئا حين تحكي معي دون أن أكلّف نفسي عناء الانتباه لها.
سألتها: كيف يكون يومك عادة يا عبير؟
امتلأ وجهها فرحا كأنها لا تصدق أنني أتكلم معها وأسألها، ثم جلست تشرح لي:

أولا في أيام الإجازة كهذا اليوم لا أذهب إلى المدرسة طبعا. أستيقظ أصلي الفجر أحفظ القرآن ثم أحضّر الإفطار وأشرب الشاي وأنا أشاهد التلفاز مع أبي، ثم يذهب هو للعمل، ثم أنام حتى الظهر وأستيقظ أصليه وأحضر الغداء، ثم أجلس أذاكر أو على التلفاز، ويأتي أبي قبل العصر نأكل سوية ثم نصلي العصر ويمضي إلى عمله وأنا أرتب البيت أو ألهو مع بنت جيراني بثينة، إن لديها أخا يدعى عبد الله، كثيرا ما يشتري لنا الحلوى والبطاطس المقلية، ثم أذاكر إلى العشاء وأحفظ القرآن، وأنام.

أما في أيام الدراسة، فأنا أذهب للمدرسة مع أبي بعد أن أعد الفطور، وهو يذهب إلى العمل، ويعيدني إلى المنزل وقت الظهيرة، اتفق أبي مع جارتنا أم عبد الله أن تطبخ لنا الغداء في أيام الدراسة فقط بمقابل مبلغ مالي يدفعه له كل أسبوع، وهكذا نعود إلى المنزل يأتي لنا عبد الله بالطعام، آكل ثم أنام حتى العصر، أستيقظ وأصلي وألعب مع جيراني أو التلفاز ثم أحفظ القرآن وأذاكر وأنام!

يا إلهي، كاد يغمى علي، ما كل هذه الثرثرة؟
ولكنني فهمت شيئا، أن عبد الله جارهم قريب منهم جدا ويتعامل معهم بكثرة،
 كيف إذن لم يعرف أنني أعيش هنا حاليا؟ لماذا الدكتور بكر لم يُخبره عني؟
تنهدت عبير قائلة: أوه، أول مرة أحكي لأحد يومي بهذا التفصيل، وأنت ماذا تفعل في يومك يا بلال؟
تقوس فمي بسخرية! وقلت: ماذا تريْن أنت؟
شعرتْ عبير بسخريتي فعقدت حاجبيها وقالت: 
أعلم أنك تستلقي على فراشك طول اليوم، ولكن ألا تفعل أي نشاط عقلي؟ مثلا: فيم تفكر؟ ماذا تتمنى الآن؟
قلتُ لها بلهجة باردة: أفكر في الانتحار، وأتمناه.
اتسعت عيناها وشهقت شهقة خفيفة، قائلة بحزن: ولماذا؟
قلتُ لها وأنا آكل ملعقة خضراوات: لأن الحياة ليست وردية كما بالنسبة لك، فأنا حياتي سوداء كما الجحيم.
تساءلتْ بحذر: هل كان أبوك وأمك يضربانك؟
توقف نظري على الطبق الموضوع أمامي، هذه الفتاة، إلامَ تريد الوصول؟
قلت بدون مبالاة: نعم!
قالت متفاجئة: لماذا؟ هل كنت شقيا؟
قلتُ لها وأنا أقلب الحساء بملعقتي دون هدف: لقد كثُرت أسئلتك! وأعتقد أن لي الحق في طردك من غرفتي!
قالت: غرفتك؟ لا، إنها غرفة أبـي..
قاطعتها بنفاد صبر: لا، إنها غرفتي، لقد استأجرتها منه بمالي، إنها غرفتي الآن.
قالت في وجل من أسلوبي: حسنا.. لا تغضب يا بلال.
ثم قامت مبتعدة عن السرير وأشارت إلى المكتبة متوسطة الحجم الموجودة في الغرفة: هل استأجرتَ هذه المكتبة منه أيضا؟
قلتُ في اقتضاب: لا!
قالت باندفاع: ولكن أبي لن يمنعك منها إن أردت أن تستعير أي كتاب. إنني أحبها، هذه المكتبة العزيزة.

سحبتْ من أحد الرفوف كتابا ثم أسرعتْ إليَ قائلة: أتعلم لقد أنهيتُ هذا الكتاب منذ يومين، إنه رائع.
توترت في تلك اللحظة وحدقتُ فيها متحفزا، لأنني أكره الكتب.
جلستْ على حافة السرير، وهي تغمغم: أعلم أنك تأكل الآن ولن تستطيع تصفحه لذلك سأقرأ فقرة أعجبتني منه.

سرحتُ طويلا وهي تقرأ، إنها تحاول التقرب مني بطريقة تثير الشك، وأنا لم أعهد هذا الاهتمام من الفتيات!
 بمجرد رؤيتهن لملابسي وعبوسي الدائم، فإنهن ينفرن من أول لقاء! إذن لماذا تفعل ذلك؟
 هل أبوها هو من أوصاها بذلك ليستطيع أن يسيطر علي؟ ويقنعني بأفكاره؟ أم أن هذه شخصية عبير؟
 خصوصا أنها تعيش لوحدها ساعات طويلة، لا تجلس إلا مع الجيران أو مع والدها، وتحتاج شخصًا يسلّيها.

إذا كانت هذه الغرفة غرفة الدكتور بكر، فأين ينام هو إذن؟ لا شك أنه ينام مع ابنته في غرفتها!
لا أعلم لمَ لدي هذا الفضول الكبير لمعرفة كل ما يخص الدكتور بكر؟
سمعنا صوت مفتاح يفتح باب المنزل، فانتفضت عبير وهي ترمي الكتاب جانبا على قدمي وتصيح بفرح: أبي!
تأوهت بألم حين صدم الكتاب قدمي بعنف، وعقدت حاجبي بانزعاج، وأنا أغمغم: يا لها من غبية!
حاولتُ أن أنهي الملعقة الأخيرة في الصحن، فأنا أكره أن يدخل علي الدكتور بكر ويجدني أتناول الطعام،
 وضعتُ الصينية بصعوبة على الخزانة وقد أمسكتها بيدي اليسرى مما شكل ذلك معاناة كبيرة لي.
سمعت صوت ضحكاتهما السعيدة، وهو يقول بحب: آه يا روحي يا عبير.. كيف حالك؟
وردتْ عليه متغنية بدلال: بخير ما دمتَ أنت بخير يا أبت.
وشعرتُ أنا بالضيق، وبدأ صدري بالهبوط والعلو وأنا أتنفس بعصبية.
كم أكره هذه المشاعر بين الأب وابنته، وأشعر أنها سخيفة!
ثم سمعتُ صوت أقدامهما يضرب الأرض نحو غرفتي، فحاولتُ تهدئة نفسي وعبستُ في وجه عبير الذي كان في قمة سعادته.
أما الدكتور بكر فابتسم لي قائلا: كيف حالك يا عزيزي بلال، آمل أن تكون بخير!
عقدتُ حاجبيّ بضيق، وأنا أقول بجفاء: حالي لا بأس به.
وجدته يرفع الغطاء عنّي قائلا بلطف: عن إذنك، سأجلس قليلا.
ثم جلس بالفعل بجانبي حتى التصقت كتفه بكتفي، وابتسم لـعبير التي قفزت قائلة: أجلسني على حجرك يا أبي.

جلستْ عليه بالفعل!!  وأنا أنظر إليهما بدهشة أخفيها، ظلّ يمسح على شعرها ويقول: طمئنني عليك يا بلال، هل تناولت طعامك؟
قبل أن أبدأ بفتح فمي وجدت عبير تصيح: نعم يا أبي لقد تناوله، هل أحضر لك أنت الطعام؟
قال وهو ينظر إلى الأطباق الفارغة: هذا رائع جدا، إنك في تحسن مستمر يا بلال.
ثم قال لابنته: لقد أكلت طعاما في الخارج يا بنيتي؛ فقط أودّ كوبا من الماء.
انطلقتْ كالريح، والتفت الدكتور بكر إلي ثم قال: بلال، مم أنت مكتئب؟
قلتُ له بسخرية: وهل علي أن أكون سعيدا؟
قال بدهشة: لا ولكن أن تكون طبيعيا يا بلال.. هذا ما أقصد!
قلتُ له بضيق: إنني أشمئز من الناس الطبيعيين! وأكرههم.
تنهد في تعب ولان صوته قائلا: إذن تكرهني؟ وتكره عبير؟
سكتت قليلا وأنا لا أعلم ماذا أقول، لماذا يسألني هذه الأسئلة؟
نظرتُ إلى يدي وتأملت باطنها وغمغمت: بالتأكيد.

أقبلتْ عبير مسرعة وهي تحمل كوب الماء، شربه الدكتور بكر على ثلاث جُرعات، كنتُ أحدّق فيه بانزعاج، 
وعندما نظر إلي زدّت عبوس وجهي فابتسم لي، فقال: من أخرج هذا الكتاب من مكانه؟
أشار إلى الكتاب الذي يستقر عند قدميّ، فقالت عبير: أنا يا أبي.. كنت أقرأ منه لبلال.
قال مشجعا: هذا جيد يا عبير، ولكن عليك أن تعيديه إلى مكانه.
أومأت برأسها ثم أخذته وأعادته إلى المكتبة وقالت وهي تحدق فيها: أبي سأستعير كتابا آخر!
قام من جانبي وخرج من غرفتي قائلا: بالطبع يا بنيتي خذي ما يحلو لك.
ثم التفت لي خصيصا: تصبح على خير يا بلال.
لم أرد عليه وأشحتُ بوجهي إلى الجهة الأخرى، وجدتُ عبير تأخذ كتابا وتصرخ بفرحة: آه.. إنها رواية! يا إلهي يبدو أنها جديدة!
ثم صرختْ قائلة: سآخذها إلى مكتبة غرفتي. ثم طارت من أمامي كريح عاصفة.
تنهدتُ في حرارة وأنا أرى ضوء الصالة يُغلق، والبيت يغرق في سكون تام!

تطلعتُ إلى صينية الطعام الفارغة بجانبي، لقد نسيت عبير أن تأخذها إلى المطبخ من شدة لهفتها للرواية!
هممتُ بالنوم لـ قضاء وقتي!
 ولكن خطرت لي فكرة جيدة، سأقوم وآخذ هذه الصينية بنفسي إلى المطبخ فأنا بقي لي أسبوع في منزل لم أتجول فيه البتة، 
وأريد التجديد قليلا، كما أنني متشوق لرؤية منزلهم من الداخل!

رفعتُ غطائي ووقفت على الأرض، ثم مددت يدي اليسرى بحذر وأمسكتُ الصينية بحرص شديد،
 فأنا أمسكها الآن بيد واحدة وهذا صعب جدا كما تعلمون على فتى مريض مثلي.
مشيتُ خطواتي بانتباه، حتى خرجتُ من غرفتي، ونظرتُ إلى الصالة المظلمة، وأثاثها الذي تلوّن باللون الأسود! 
لكن مهلا، هناك في آخر ممر الصالة باب مفتوح يصدر منه ضوء أبيض..

أعتقد أنه المطبخ، عزمت المشيَ إليه، وكان هناك بابان مغلقان في واجهته، أعتقد أنهما غرفتا الدكتور بكر وعبير وقد ناما الآن!
 وعندما وصلتُ إلى منتصف الممر، اتضحت الرؤية أكثر في الظلام،
 وشاهدتُ شبحا نائما على أرض الصالة، قد تغطى بغطاء خفيف، شعرتُ بالرعب! من هذا الشخص؟

حاولت التحديق إليه في ظل هذا الضوء الخفيف وأنا أحاول كتم فزعي، لكن عندما تبينتُ وجهه صُعقت أكثر، 
فقد كان الدكتور بكر نفسه نائما!

لمَ لا ينام في تلك الغرفة الأخرى؟ لم ينام على الأرض؟ إنه يثير دهشتي!
ولكن قطعتُ كل أفكاري وأنا أشهق شهقة فزعة حين وقعت الصينية مني بسبب قلة انتباهي، 
وتكسر الصحن والكأس على قدميّ..

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم