أحدث الموضوعات

رواية أنا أكرهكم (الجزء الثالث)

رواية أنا أكرهكم

رواية أنا أكرهكم (الجزء الثالث)

رواية أنا أكرهكم (الجزء الثالث)

(3)

عندما استيقظت للمرة الثالثة، كان جسدي منهارا، يبدو أن هذا نتيجة عدم الأكل مع المرض، ومع كسر يدي وتلك الإصابات المنتشرة في أنحاء جسدي، الحمد لله أنني سأموت دون أن أبذل أي جهد بالسكين أو غيره.. 
فأنا بصراحة أخاف من أستخدمها على جسدي.
ولكنني فوجئت بإبرة المغذي تتصل بيدي اليسرى فجأة، حاولتُ الجلوس بصعوبة شديدة، 
وعندما جلستُ هممتُ بأن أُزيل ذلك المغذي فهذا المغذي يغذي جسدي ومعنى ذلك أنه سيتحسن وأنا أريد الموت.

ولكن.. يدي اليُمنى مكسورة، كيف سأزيله؟
جلستُ أنقل بصري بحيرة بين المغذي ويدي المكسورة.. ثم خطرت لي فكرة رائعة!
قرّبتُ يدي اليسرى من فمي، ثم أغمضتُ عيني وحاولت انتزاع الإبرة بأسناني!
"ماذا تفعل؟"
وجدتُ ذلك الرجل يهتف بفزع وهو يركض نحوي، أعدتٌ يدي إلى مكانها، ونظرتُ له ببرود قائلا: لا دخل لك.
اعتدل بصره وهدأت ملامحه قليلا، وأخذ نفسا عميقا رغم أنه كان من المفترض أن يحصل العكس!
اقترب مني بهدوء شديد، جلس إلى جانبي، كنتُ أنظر له بتحدّ وعناد، ولكنه كان لطيفا عندما أمسك يدي اليسرى ليصلح اللاصقة التي تثبت الإبرة.. ثم وضعها بحرص على السرير..
ثم.. سكت، ووضع يده الدافئة عليها، ثم قال لي: بني.. لا تحاول إيذاء نفسك! أنت لن تجني من هذا شيئا ذا قيمة.. بلال، أرجو أن تتفاهم معي قليلا.. ريثما تُشفى على الأقل.
أشحتُ بوجهي دون أن أردَّ، كم أشعر بالتفاهة! إنه ينصحني كما لو أنه فهم أسرار الدنيا كلها!

وجدته يُضيف بجدّية:
 لا تستهن بكلامي، إنني بالتأكيد لا أعلم سبب ما تفعله، ولكن أذني مُصغية لكل ما تريد أن تقوله لي.. 
ربما تكون حياتك صعبة جدا، ولهذا تريد الأذى لنفسك.. لكن هذا ليس مبررا أبدا، فلكل مشكلة حل.
لا أدري لماذا، شعور غريب ينتزع قلبي، فجأة أشعر بالهبوط الشديد وبأن تنفسي صار أصعب من المعتاد، وشعور قوي بالألم يزداد كلما حاولتُ أخذ أنفاسي.
التفتٌ له وأنا أحاول أن تبدو عيناي بمنظر قوي، قلتُ وبصوت بالكادُ يُسمع: قلتُ لك مِرارا، لا.. تتدخل.. في.. حياتي!
ثم ابتلعت ريقي بصعوبة شديدة، ونظرتُ له لأرى ردة فعله غريبة جدا، فقد تبسم ابتسامة واسعة وقال: لن أتدخل، ولكن ائذن لي بأن تجيبني على سؤال واحد!
نظرتُ له رغم أنني لم أكن أريد التوسع معه في الكلام، فوجدته يقول باهتمام: لماذا تريد الانتحار؟ لماذا لا يهمك أبدا أمر هذه الحياة؟

أغمضتُ عيني مليَّا، ثم قلتٌ بصوت متقطع منخفض:
 أعتقد أن لي الحق في عدم الإجابة على السؤال، إنني أريد.. الموت، ولا أحد لديه الحق ليأخذ أسبابي.. وأتمنى، منك، لاحقاً.. ألا تمنعني من الموت أو تنقذني منه..
ثم لم أستطع التماسك، الاختناق وصل حتى رقبتي، أمسكتها بيدي اليسرى في ألم ورحت أحاول ألا أفقد وعيي مرة أخرى أمام هذا الرجل.
شعرتُ بماء بارد يُلقى على وجهي، ويدٍ حنونة دافئة تُحيط كتفي لتُطمئنني، بدأ التنفس الطبيعي يعود لي تدريجيا، لكني لا أستطيع رفع رأسي.. 
 هناك صدر حنون تستند إليه، دون أن يكون لي المجال أن أرفعها.
شراب حُلو المذاق يهبط بانسيابية لفمي وأبتلعه دون أن أفكر، يبدو أن إحدى العصائر الخفيفة، كنتُ أسمع كلاما كثيرا من حولي:
_ إنه مصاب بهبوط شديد، بسبب اجتنابه الطعام لكل هذه المدة.
_لابد أن عصير التفاح سينعشه قليلا يا أبي.. لا تقلق.
_إن جسده قوي على الرغم من ذلك، ولكن إن استمر على هذا العناد فستنهار حالته أكثر وحينها لن أقدر على إنقاذه إلا إذا تعاون معي.
تنّهد، ثم راح يمسح على وجهي ويهمس ببضع كلمات حتى استفقتُ أخيرا، عندئذ وجدته خلفي، يُسند رأسي إلى صدره ويمسح على رأسي بعطف. وحالما وقعت عيناي عليه ابتسم بنفس الابتسامة، ولكنني قلت له في انزعاج وعدوانية رغم ضعفي: ابتعد عني.
نظر إليّ قليلا ثم ساعدني في الاستناد إلى وسادة وراء ظهري ثم جلس أمامي.

رأيتُ الفتاة نفسها وهي تنظر لي باهتمام شديد، وعندما انتبهتْ لنظراتي لها احمّر وجهها ثم خرجت من الغرفة بعد أن أخذت كأس العصير الفارغ.
سألني ذاك الرجل: أأنت بخير الآن؟
كنتُ متضايقا منهما، الاثنين، الرجل والفتاة، ومتضايقًا من نفسي، لأنني سمحت لهما بأن يٌسعفاني.
قلتُ له بانفعال: ألم تقل لي أنك لن تتدخل في حياتي؟ لماذا تٌحاول إنقاذي دائما، فلتتركني للموت، وسأكون شاكرا لك أكثر من شكري على مساعدتك.
قال لي بحسم: سوف أطلب منك شيئا فيه جواب سؤالك.
أنصتٌ له فقال:
 تخيل نفسك مكاني، بنفس قدراتي هذه، ترى أمامك شابَّا يموت أمام عينيك، أتراك ستتركه أم تنقذه؟
 خصوصا وأن لديك القدرة الكاملة على إسعافه وإنقاذه.. ثم تراه بعد أن أنقذته غاضبا منك، ويحاول الانتحار.. ماذا ستفعل؟ 
فوجئت بذلك فلم أتوقع أن يجعلني أمام هذا الطلب، ولكنني رغما عني تخيلتٌ ذلك، فوجدت أنني أمام مشكلة حقيقية، ولأكون صادقا مع نفسي فإنه إذا حصل لي ذلك فإني لن أتوانى عن إنقاذ ذلك الشاب لحظة واحدة.
ولكني لم أُخبره بجوابي بل تظاهرت بالبرود، فقال وفي صوته الهادئ شيء من الانفعال: أنا قلتُ لن أتدخل في حياتك، ومعناها أنني لن أرغمك على شيء لا تريده أنت، شيء لا يضرك ولا يجعلك تموت مثلا.. أما أن تُصاب أو تحاول الموت وتطلب مني عدم التدخل! عذرا أنا لن أقف مكتوف الأيدي..

ثم سكت قليلا، وغمغم وعيناه عميقتان وبصوت عميق: بلال.. إنك لا تفهم نفسك جيدا.
قلتُ له في غضب هازئا: هه.. على أساس أنك تفهمني مثلا؟ أنت لن تفهمني حتى وإن كنت طبيبا نفسيّا!!
رفع حاجبيه إلى أعلى ثم قال لي بهدوء وهو يهز رأسه بابتسامة مُتعجّبة: إنني بالفعل طبيب نفسي.
أشحتُ بوجهي وأنا أقول بتهكم: الأطباء النفسيّون هم أشد الناس جنونا على الإطلاق.
لم أره وهو يضحك، ولكنني سمعت صوت ضحكته، كان يضحك بشدة كما لو أنني قلتُ نكتة تافهة ثم غمغم: أحدهم قال لي هذا ذات مرة!
بعد أن سكت، قال لي: حسنا، مطالبك يا بلال هي: أن أتركك تموت أو تنتحر دون تدخل مني أليس كذلك؟
لم أُجب عليه، فقال بإصرار بعد مدة طويلة: أجب على سؤالي، أليست هذه مطالبك؟
تنهدتُ قائلا: بلى.. 
سألني: ألديك مطالب أخرى؟
أجبتُ: لا.
أخذ نفسا عميقا، ثم قال: أعدك يا بلال، أن أنفذ مطالبك تلك، ولكن قبلها، عليك أن تنفذ مطلبي أنا!
التفتٌ له في دهشة وهتفت: مطلبك؟ وما هو؟
عقد حاجبيه بجدية، ثم ابتسم وقال: أريد الثمن.
رددتُ بدهشة: ثمن ماذا؟

أجابني وهو يشير إلى كل شيء حولي في الغرفة: ثمن كل شيء منذ جئتَ إلى هنا. لقد أسعفتك منذ ثلاث أيام، أعطيتك كل شيء أملكه من الممكن أن ينقذ حياتك. ويبدو أنك تظنّ أنني أنقذتك بسبب الشفقة، لكن هأنذا أُخبرك بأنني إنسان جشع طمّاع أستغل من أنقذهم ليعملوا عندي..
شممت رائحة خداع في الموضوع لكنني أنصتتُ له جيدا.

أردف: أنا أريد ثمن علاجك، فقد ذهبت بك إلى المستشفى ودفعتُ مبلغا كبيرا، وأعدتُك إلى هنا لتكون أمام عيني، واستعنت بكثير من أصدقائي الأطباء أخصائيين العظام والرأس..
كما أن معظم الأدوية هنا أنا من جلبتها.
ثم أشار إلى أدوية كثيرة موضوعة على الخزانة بجانبي، نظرتُ إليها كانت كلها تقريبا حُقنا، هل فقدت وعيي معظم الوقت حقا لدرجة أنه لم يستطع إعطائي أي نوع دواء غيرها؟
توترت وأنا أراه يقول ببساطة: أرأيت؟ أنا أسمح لك بالموت، مقابل أن تدفع لي ثمن علاجك.
قلتُ بقلق: ومن أين لي بالثمن؟

قال لي: أنت تستطيع العمل، فما زلت في بداية شبابك، ولأسهل عليك، فأنا أملك متجرا لبيع العطور، أسسته بعد أن تقاعدتُ من الطب النفسي، وأذهب لأقف فيه طوال اليوم، وأحتاج لصبي يساعدني فيه، لهذا ستعمل معي حتى تستوفي الأجر الذي عليك، وبعد أن آخذ حقي سأتركك لتفعل بنفسك ما تشاء. أو على راحتك تعمل في أي مكان تريد المهم أن أحصل على مالي.
قلتُ في حيرة: ولكن كيف أعمل وأنا بهذه الحالة؟

قال: آه أتقصد كسر يدك وإصابة قدميك وأضلاعك؟ لا تقلق.. بعد شهر من الآن ستكون مُعافىً بإذن الله إذا اتبعت تعليماتي جيّدا.. وبعدها تبدأ العمل. وكل تهاون أو أذى تفعله في نفسك سيزيد مدة الشهر.
ازدادت أنفاسي اضطرابا، وكذلك دقات قلبي، تسارعت. خصوصا عندما قال لي بحزم: هيا أخبرني جوابك!؟
ابتلعتُ ريقي ثم قلتُ: نعم.. أعتقد أنني سأدفع لك ثمن هذا، بل وسأزيد عليه لكيلا تفتح فمك مرة أخرى!
وجدته يتنهد بتعب وكأنه لتوّه عائد من معركة، ثم رفع رأسه وابتسم يقول: إذن لنتفق على هذا يا عزيزي.. عليك أن تأكل جيدا وتتغذى بشكل سليم حتى تُشفى بإذن الله، سريعا، كذلك عليك أخذ الأدوية بانتظام.. حتى تتمكن من دفع الثمن مبكرا.
قلتُ له بعدوانية: كل الطعام الذي ستقدمه لي خلال هذا الشهر سأدفع ثمنه أيضا.
أجابني ببساطة وهو يتجّه إلي: 
بالتأكيد.. كل شيء هنا له ثمن، اعتبر نفسك في فندق خاص وكل ما يٌقدم لك عليك أن تبذل مقابله مالا.
أخرج دفترا صغيرا من الدرج الذي بجانبي وقلما، ثم كتب شيئا على الورقة، وقدمها أمامي قائلا:
 إذا كنت موافقا على ذلك فوقّع هنا.
ألقيتُ نظرة على ما كُتب، وهناك شعرتُ بورطة حقيقية، وراح وجهي يتلوّن ألوان الإحراج والحيرة، والجوُّ ازداد حرارة فتعرق جبيني، ألقيتُ نظرة خاطفة إليه فوجدته يحدّق إلى بنظرة اهتمام ولطف، فعدتُ مرة أخرى إلى الورقة وأنا أبتلع ريقي..
 الحقيقة أنني لا أستطيع القراءة ولا الكتابة!
كل ما فهمتُه هو رسم بسيط على شكل وردة في نهاية الورقة!

احمّر وجهي خجلا عندما سألني الرجل باهتمام عندما وجدني أحدق في الورقة بصدمة: 
ما بك؟ أهناك مشكلة؟ إذا كنت غير موافق فضع علامة صح عليها ووقع على ذلك!
تكلمتُ بسرعة: آه. لا شيء أبدا.. فقط أفكر.. 
توترتُ كثيرا، الآن كيف أعرف مربع موافق من المربع الآخر؟
اقترب مني ثم أشار بإصبعه إلى إشارة موافق ثم ابتسم لي مغمغما: هنا موافق وقّع بجانبها إن أردت!
ابتسمت بتوتر ثم قلتُ: بالتأكيد أعرف لقد كنت أفكر فقط!
ثم اتجهتُ بالقلم فورا إلى ذلك المكان الذي أشار عليّ فيه ووقعتّ بجانبه وقد تنفستُ الصعداء!
أتراه فهم أنني أمّي لا أعرف القراءة والكتابة؟ خصوصا أن توقيعي كان مجرد خطوط متساوية بها خط يقطعها!
نظرتُ له بارتياب ثم أعطيته الدفتر، ومعه القلم.
فقال: ممتاز، الآن بيني وبينك اتفاق مُحكم وقد وافقنا عليه نحن الاثنين، حافظ عليه.
ثم ذهب قليلا عني ريثما أفكر..
وعاد سريعا بصينية عليها أطباق عديدة، ثم ابتسم لي وهو يرفعها: هذه بداية تطبيق العقد!
ثم وضعها أمامي قائلا: الأفضل أن تحرص على صحتك ابتداء من الآن..
نظرتُ له نظرة خالية من المعاني! وقد خطرت على عقلي أفكار جديدة، إنه يخدعني.. إنني أشعر بالسخرية من كلماته.. لا شك أنه يضحك عليّ لكيلا أقتل نفسي فقط!
وراحت تلك الأفكار تتملكني شيئا فشيئا، ولكن.. لا..

لقد خيّرني هو بعد دفع الثمن له أن أقتل نفسي أيضا، إذن الأمر مجرد أنه يريد ثمن ما دفعه؟
آه، أتمنى ذلك، لأنني لا أريد أبدا أن أكتشف أن رجلا كهذا يخدعني..
ماذا لو جئت بعد دفع الثمن له أعادني إلى أمي وأبي؟ يا إلهي.. لا.. حينئذ لن أتمكن أبدا من الانتحار!
وتتالت على عقلي ذكريات متفرقة، عندما حاولتُ أن أحرم نفسي الطعام والشراب بُغية الانتحار.. علمتْ أختي بذلك فأخبرتْ والدي، حينئذ..
راح يجلدني بغضب شديد وهو يهذي بأنني أريد عدم مساعدته وأريد الشقاء له. وبعد أن أهلك جسدي بالضرب، أطعموني رغما عن أنفي.. كنتُ حينها مُهانا، بكل معنى الكلمة!
وحين جاء أبي ليخرج من الغرفة قال بكل سخرية: تنتحر؟ تنتحر يا ولد؟ افعلها إن كنت شجاعا!
قاومتُ الألم الذي يسيطر عليّ وانهالت عيني بالدموع دون أن أشعر وقلتُ بكل عناد وتحدّ: نعم سأفعلها، وسترى.
قال لي بعينين متوعدتين: سأقص رقبتك قبل أن تفعلها أيها المغفل! إياك أن تفكر بهذا الهراء مرة أخرى.
حينما تذكرتُ هذه الذكريات، شعرتُ برجفة قوية في جسدي، فأغمضتُ عيني مُرتعشا.
" أأنت بخير يا بلال؟"
نظرتُ إلى ذلك الرجل الذي يقف فوقي ينظر لي بعيْنين صافيتين، أهو صادق؟ فكل الناس كذابون!
إنني بحاجة إلى أن أطمئن أنه سينفذ وعده حقا حالما أدفع الثمن! رفعتُ رأسي له قائلا بشك:
هل.. أنت حقا.. ستدعني أنتحر طالما.. دفعت لك الثمن؟
شعرتُ بأن نظراته طالت لي هذه المرة، وهو يحدّق لي ببرود، قلتُ بانهيار: كما توقعتُ.. كلكم كاذبون.. تعدونني ولا توفون بوعودكم.
ولكنه هتف: لا.. لستُ كاذبا! أقسم لك يا بلال أنني سأفي بوعدي.
قلتُ بعصبية: وماذا إذ ا لم تفعل؟
قال بحزم: افعل حينها ما تشاء.. اهرب.. نفذ ما تراه مناسبا، بالطبع هذا إذا لم أفِ بوعدي!
هدأتُ قليلا بعد رؤيتي لتلك النظرة الصادقة في عينيه، ولهجته الجدّية.
بعد ذلك وجدُته يبتسم.. نعم يبتسم.. قائلا: اعذرني يا بلال أنني لم أعرّفك بي.

ثم اقترب مني وبلهجة لطيفة قال:
 أنا اسمي بكر، تخرجتُ من كلية الطب بعد حصولي على الدكتوراه، كنت أعمل طبيبًا نفسيا في عيادة لكنني أغلقتها منذ سنتين والآن أعمل في متجر عطور قريب.
لم تبدُ على ملامحي أي استجابة له، ولكنه أكمل: وابنتي هذه اسمها عبير، لا زالتْ في العاشرة من عمرها، ستُنهي الصف الخامس الابتدائي قريبا.
قلت متسائلا: لديك ابنة واحدة؟ أين أمها؟
ويبدو أن سؤالي كان خطئا، فقد انقلب ملامحه فجأة وامتقع وجهه، وراح ينظر لي بصدمة وكأنني فاجأته بسؤالي.
شدّني ذلك لإعادة السؤال في فضول أكبر: أين هي والدتها؟ أتعيش مع ابنتك وحدكما؟
تدارك نفسه وهو يبتسم بذبول: نعم يا بلال، نحن نعيش وحدنا.
سألته بتردد: ماذا.. جرى لها؟ أقصد.. أمها.
اقترب من الباب دون أن يُجيب على سؤالي، كنت أنظر إلى ظهر معطفه البنيّ باهتمام، حتى أدار لي وجهه ثم قال متنهدا: هذه قصة لا يجب أن أقولها لك الآن.
ثم أغلق الباب مؤكدا: ربما أقولها لاحقا، لكن ليس الآن.. ليس الآن.
عندها أعدتُ وجهي إلى الطعام الثابت أمامي، حسنا، إنني أتوقع في أفضل الحالات أن أمها ماتت ولكن لا ينبغي أن يحزن، إنه ليس شيئا كبيرا كما تتصورن.
موتُ الأم في نظري أو الأب هو تجربة ربما تكون حزينة نوعا ما، لكنها تجربة تستحق أن تُجرب. ثم ابتسمتُ في حماس وأنا أقول بسخرية: ترى ماذا سيحدث لو كانت أمي ماتت هي وأبي؟ أعتقد أننا سنكون أفضل!!
ثم بدأت آكل في ارتياب وأنا أفكر ماذا أفعل في الشهور القادمة، وماذا يمكن أن يحصل لو لم يوف بكر بوعده لي.
__
مرّت ثلاثة أيام وأنا لا أزال على حالي، لا أستطيع الحراك من فراشي إلا بصعوبة، كنتُ آكل الوجبات كما وعدتُ الدكتور بكر، وآخذ الأدوية بانتظام. كلامي معه لم يكن ذا أهمية إلا عن الطعام والدواء وبعض أسئلته عن تطور صحتي.
ولكن.. هل سأستطيع تحمل الحياة لشهر قادم حقا؟
لقد مللتُ! 
في منتصف الليل، كنت مستلقيا على سريري كما هي العادة، أنظر إلى السقف بشرود، وأنا أتحسس الجبس على يدي اليُمنى..
لماذا يجب عليّ أن أعيش وأشفى حتى أدفع ثمن انتحاري؟ ما هذا الهراء؟ ألا يوجد طريقة أخرى أدفع بها الثمن دون أن أعيش؟
في تلك اللحظة الساكنة، شعرتُ بصوت قادم من خارج الغرفة، يبدو كشخصين يتهامسان.
إنهما بكر وعبير، يبدو أنهما يتكلمان، أغمضت عيني لأبدأ النوم فأنا لا أهوى سماع كلامهما.
ولكنني فتحتُ عيني بانتباه عندما سمعتُ اسمي في حديثهما، كانت عبير تقول: يا لها من مصادفة يا أبي.. أليس كذلك؟
ثم صوتُ بكر: أية مصادفة تلك؟
_ أعني أن بلال اسمه كذلك، وأنت اسمك بكر، وأبو بكر رضي الله عنه هو من أعتق بلال رضي الله عنه، وأنا أشعر بأنك أيضا سوف تُخلّص بلال من أفكاره السيئة!
ماذا؟ أفكاري سيئة؟ تبّا لك يا عبير.
قال بكر: آه نعم أنت محقة، أتمنى ذلك فعلا. ولكن هناك مصادفة أخرى!
عبير: ماهي؟
_ ألا تلاحظين أنني طبيب نفسي، وبلال مريض نفسي؟ أشعر أن الله أرسله لي لكي أعالجه، بعد أن اعتزلتُ الطب النفسي منذ سنة، ولكن مازال هناك صوت داخل عقلي يُخبرني أنه يجب عليّ أن أستخدم خبرتي وعلمي في علاج المرضى النفسيين وليس للوقوف في محل عطور!
قالت عبير بدهشة: 
آه بالفعل يا أبي، وأنا كذلك أعتقد أنه يجب عليك أن تعود لعملك النفسي مهما كانت ظروفك.. 
والذي حصل قبل ذلك يا أبي يعلمك أن تحذر.
قلتُ في داخلي بسخرية:
 أنا مريض نفسي؟ أحقا يعتبرني كذلك...؟ إذن.. هو يعدني بهذا الوعد السخيف لكي يهدّئني ويطمئنني..
 ولكنه في الواقع لا يريد أن ينفذ ذلك الوعد!
جاء الجزء المهم من الحديث، عندما سألته ابنته: أبي هل حقا ستسمح لبلال أن ينتحر إذا دفع ثمن علاجه ومسكنه؟
تنهد ثم قال: بالطبع لا.! لن يستطيع أن ينتحر في ذلك الوقت!
عندئذ هوى قلبي عند قدمي.. ولم أعد قادرا على الحراك! لقد كان يخدعني!
ذلك الوغد!! لن يسمح لي بتنفيذ وعدي. إنه رجل خائن! 
ومن هو أصلا حتى يسمح لي، إنني سأنتحر رغم أنفه!
سأريه حقا من أنا إذن! يعتبرني مريضا نفسيا ومجنونا، ولكنني سأفهمه بالقوة أنني..
أنني أقوى منه وسأنتحر! الليلة!

_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم