أحدث الموضوعات

رواية بهابيهو (الجزء السابع عشر والأخير)


رواية بهابيهو 

رواية بهابيهو (الجزء السابع عشر والأخير)

رواية بهابيهو (الجزء السابع عشر والأخير)

(17)


 وضع طارق رأسه على مقود السيارة في اكتئاب، وبجانبه صادق يقول له في حيرة وخوف:
كيف ستخبرها يا طارق عنه؟
أطلق طارق آهة متألمة ثم رفع وجهه الذي أغرقه الحزن: لا أدري كيف!
قال صادق بجدّية: لا حل إلا الذي قلته لك، عليك أن تُخبرها ولكن بطريقة مناسبة، وهذه الطريقة تعرفها.
تنهد طارق وهو يحرّك سيارته بجانب إحدى المساجد، فقد كانت صلاة الظهر قد بدأت،
 ترجلا من السيارة وصلّيا معا، أما عن ألم طارق، فقد شعر بوحدة شديدة وهو يصلي لأول مرة صلاة بدون بهاء،
 شكا لله كل همه ودعاه أن يلطف بزوجته حين تسمع الخبر!
ترك صادق ينتظر في السيارة حتى إذا حصل أي شيء، وصعد هو إليها،
 تسللت إلى أنفه رائحة الطعام الزكي الذي تصنعه لأجلهما!
وجدها تٌقبل عليه باسمة وهي تفرد شعرها الحريري القصير على كتفيها وتضع بعض أحمر الشفاه والكحل، 
على جسمها الرشيق فستان طويل ملوّن بألوان زاهية، سلّمت عليه وهي تظنه عائدا من العمل!
 ولا تعلم أنه عائد لتوّه من المستشفى بعد أن وقع شهادة وفاة ابنه!
ثم قالت له: صنعتُ سمكا مشويا رائعا سيعجب بهاء كثيرا، المهم أن يعود سريعا!
ثم ضحكت وهي تعود بكأس ماء له وتمسح على شعره قائلة وهي تجلس: 
يبدو أنك تعبت اليوم في عملك كثيرا، أخبرني.. هل خسرتَ إحدى الصفقات؟ وجهك لا يبشر بخير!
تنهد طارق واصطنع ابتسامة ثم قال: نعم، هناك شيء حصل بالفعل، سأحكي لك.
جلست وهي تضع يدها على قلبها، وبدأ هو حديثه الشارد: أحد أقربائي تُوفي اليوم!
شهقت وهي تقول: 
لا حول ولا قوة إلا بالله.. اصبر يا عزيزي، 
لقد كنتُ من بداية اليوم أشعر أن هناك أمر فقد كان قلبي ينقبض بخوف وقلق..آآ.. هل أنا أعرف قريبك هذا؟

قال طارق وهو ينظر له بعينيه: 
المشكلة الصعبة أن أم قريبي هذا أعصابها لا تتحمل خبرا كهذا، وزوجها محتار كثيرا في أن يُخبرها، ونريد حلّا لذلك!
أطرقت غدير برأسها قائلة بحزن:
 يا لها من مسكينة، صبّرها الله وأعانها، ولكن على زوجها أن يُخبرها بطريقة لطيفة.
سكت طارق مليّا، فقالت غدير بلطف متسائلة بحيرة: ولكن هل أنا أعرفها تلك القريبة؟
لم تجد منه ردّا سوى الشرود، فاقتربت منه مرددة: طارق؟ هل أعرفها؟
أخفض رأسه في صمت، فرددت بقلق: طارق! أجبني!
وجدته يأخذ نفسا عميقا ثم يلتفت لها قائلا: نعم.
سألته في وجل وحذر: من هي؟
نظر لها مباشرة بعينين حزينتين: إنها أنتِ!
بعد أن استوعبت شهقت بفزع وانتفضت واقفة وهي تضع يدها على فمها: 
مستحيل.. مستحيل! لا لا..

ثم تراجعت سريعا وهي تركض، قام طارق واقفا وهو يقول: اهدئي يا غدير! انتظري!
لحقها إلى غرفتها، وجدها تُمسك هاتفها وتتصل به، وهي تصيح في هلع: لمَ لا يرد! لم لا يرد بهاء؟
ثم استدارت مصدومة إلى طارق الذي كان هاتف بهاء في جيبه يرن بنغمته المميزة، 
اقتربت منه وأخرجت الهاتف من جيبه دون أن يتحرك هو بأي حركة، ثم نظرت له هاتفة: 
لماذا.. هاتف بهاء بحوزتك؟ ها.. لماذا؟
ابتسم طارق بحزن وهو يتذكر أنه وقع على استلام كل متعلقات بهاء الشخصية: 
لقد أخبرتك! لقد سبقنا إلى جوار الله عز وجل.
انفجرت دموعها وهي تتراجع وكأنها خائفة من طارق الذي ألقى عليها هذا الخبر الصاعق،
 اقترب منها طارق فتراجعت وهي تصرخ: لا.. لا.. هذا حلًم.. حُلم، كابوس!
أمسك طارق يدها وقال لها برفق صارم: اهدئي يا غدير.. كوني امرأة مؤمنة!
توقفت عن الحراك وظلت واقفة بذهول، وارتجفت شفتاها وهي تغمغم: فقدتُ ابني؟ ابني الوحيد؟
اقترب طارق منها بهدوء وجذبها إلى صدره قائلا في حزن:
 اصبري يا حبيبتي، هذا بلاء من الله، يختبرنا، لنرى أنصبر أم نُفتن؟ والحقيقة أنه بلاء ثقيل جدا..
 أشك في نفسي أنني أستطيع تحمّله! فكيف بكِ أنتِ يا عزيزتي..
ظلَت تسترجع وتحوقل بعد كلامه ثم بكت كثيرا في حضنه، وهو تحمّلها وراح يهدئها ويصبّرها، 
حتى مرّ الوقت طويلا، أخرج هاتفه ليتصل بصادق، وغمغم:
 صادق، يبدو أنها تحملت الخبر، فلتعد إلى المستشفى وانتظرني هناك!
ثم أغلق الخط ومسح على شعرها مغمغما بحزن: هيا يا غدير.. ارتدي عباءتك!
لكنها لم تجب عليه، خاف عليها كثيرا فرفع رأسها ليجدها فاقدة الوعي ومازالت رموشها مبللّة بدموعها، 
أمسك هاتفه مثل المجنون واتصل على صادق هاتفا: صادق أسرع إلى هنا! لقد حصل ما كنّا نخشاه!
_

في المستشفى، أقبل الطبيب عليهما وهو يقول بأسف:
 حالتها خطرة جدا، أصيبت بصدمة عصبية شديدة، ستبقى في العناية المركزة حتى تفيق من غيبوبتها، 
أسأل الله لها الشفاء!
ثم وّلى منصرفا كعادة الأطباء، يقولون لنا الخبر المؤلم الفظيع ثم ينصرفون بلا مبالاة فقد اعتادوا على ذلك!
 أما نحن.. فنحن الذين نتمزق من الألم.
استند طارق لاهثا على جدار الممر ثم نظر بمرارة إلى آثار الطبيب المنصرف،
 كان يشعر بأنه يجاهد ليأخذ أنفاسه بعد أن سمع هذا الخبر، 
حاول تهدئة نفسه فلم يملك إلا والدموع الحارقة تنزل من عينيه المعذبتين.
وضع صادق يده على كتفه في أسى وقال: اصبر يا أخي، اصبر واحتسب.
ارتمى في حضنه وهو ينتحب مغمغما: يا إلهي، ابني وزوجتي، وفي نفس اليوم! رحمتك يا رب.
زفر صادق بحزن ثم قال: إنه بلاء من الله، إنه اختبار من الله عز وجل ليبلوك! فلتري الله من نفسك خيرا يا أخي..
أومأ طارق برأسه موافقا بألم، ثم قال راجيا مبتهلا: يا رب صبّرني واهدني!
ثم ابتعد عنه وهو يستعيد رباطة جأشه وقوته ويتنفس تنفسا عميقا رغم العذاب الذي يتألم به في قلبه،
 مسح دموعه بظاهر كفّه ثم نظر إلى صادق وهو يقول وفي صوته المبحوح بعض الإصرار:
 هيا إلى مستشفى بهاء، إكرام الميت دفنه وعلينا إكرام بهاء.
ثم رفع رأسه وهو يسير، فوجد فتاتين تمشيان بسرعة، عرفهما على الفور، 
إنهما ورد ورقية بنتا صادق، حضناه وكل واحدة تبكي بحزن على بهاء وغدير!
_

انتهت إجراءات الجنازة ثم العزاء، ومضى على ذلك أسبوع كامل!
كان طارق في بيت عمير، ينظر شاردا إلى كوب الشاي الذي بين يديه،
 ويسرح في ذكرياته، يوم أن كان بهاء مولودا صغيرا!

:::
غدير وهي تنظر إلى وجه طفل صغير وقد بدا وجهها أكثر شبابا ونضرة مما هي عليه الآن تمتمت بحب:
 ماذا سنسميّه يا طارق؟
ابتسم طارق وهو يقبّل ذلك المولود بين عينيه: لأنه أبهى على حياتنا، وأدخل البهجة والسرور والبهاء عليها،
 فسنسمّيه بهاء! ما رأيك؟
ضحكت غدير في فرحة حقيقية:
 اسم جميل! حتى أن وجهه بهي، ألا ترى ذلك!
ثم ابتسمت وهي تقول في لهجة مسرحية: 
ولكنني لا أتخيل نفسي وأنا أقول: تعال يا بهاء، اذهب يا بهاء.. هنا يا بهاء.. بهاء!
ضحك طارق وسألها مفكرا: إذا كان بهاء هو اسمه فكيف كنيته؟ أبو عادل؟
قاطعته في حماس: لا.. لا مازال صغيرا.. علينا أن نضع لإسمه "دلعا" مثلا: بوبي..
قال لها باستنكار: 
ماذا بوبي هذه؟ تبدو كاسم كلب.. كما أنني أريده أن يخرج رجلا!
ضحكت على حدته وهي تغمغم: 
جعلت ابنك كلبا.. لا بأس ما رأيك بـ.. بهبوهو.. بل.. بهابيهو؟
قال لها مازحا:
 تبدو اسما مركبا كاللغز، ولكني انتبهي فقد تكون إحدى الشتائم في لغة أخرى!
قالت غدير متضايقة: 
ما بك كل ما اخترعت اسما ذممته! قلنا بوبي قلت كلب قلنا بهابيهو قلت شتيمة!
ابتسم طارق ثم قال:
 لا بأس عليك يا أم بهابيهو!
ضحكا معا وقبّلا يديه الاثنتين بحب عميق.
:::

ابتسم طارق في حزن، وهو يعيد ذكرياته من جديد ليسلّي قلبه المسكين!
دخل عمير عليه فوجده يجلس سارحا وبين يديه كوب الشاي، جلس بجانبه، وهو يقول:
 ألن تشرب الشاي؟ سيبرد بين يديك! الشتاء على الأبواب.
نظر طارق إلى الشاي وشعر بحرارته وبخاره الذي يتصاعد منه، وتمتم بشرود:
إنه ساخن.. لكنني أشعر ببرودة شديدة!
تنهد عمير والألم يملأ قلبه على حال طارق، ثم سأله ليفتح موضوعا جديدا: 
كيف حال زوجتك؟
ابتسم طارق والتفت له قائلا: 
لا تزال كما هي في غيبوبتها التي سقطت فيها يوم وفاته، لا شيء جديد!
 لم تستيقظ أبدا منذ أسبوع.. إنني أزورها كل يوم!
تألم عمير أكثر لحاله، فوضع كفه على كتفيه قائلا: صبّرك الله! كم أنت رجل شجاع!
لم يبدُ من طارق أي استجابة، فعقد عمير حاجبيه بجدّية:
 طارق، هل فكرت في موضوع مبارك؟ إنه يريد لقائك في سجنه ومصر على ذلك.. 
كما أنك لم تقرر ماذا تريد من القضاء أن يفعل له؟ قصاص أم دية أم عفو؟

ابتسم طارق بسخرية وغمغم:
 عفو؟ فليحلم هذا الحقير بالعفو!
 يقتل ابني وبسببه تدخل زوجتي في غيبوبة لا يعلم أتستيقظ منها أم لا، ثم تقول عفو؟ عفوًا، أنا لن أعفُ عنه!
سأله عمير: إذن دية؟
سكت طارق قليلا ثم قال: ولا دية!
بدأ حاجبا عمير بالارتفاع وهو يردد: إذن.. قصاص؟
بدت على وجه طارق ملامح الجدّية ثم ظهرت في عينه نظرة مرعبة،
 خاطب بها عمير بصوت صارم: نعم. سأختار القصاص لهذا المجرم!
ثم جرع الشاي مرة واحدة، ووقف قائلا في حزم: وقُل لهذا الوغد،
 ألا يحلم بلقائي قبل قتله، فأنا لن أتحمل رؤية وجهه الكريه!
ثم زفر بقوة والتفت لعمير متبسما وصافحه قائلا بامتنان:
 وشكرا على الشاي.. جزاك الله كل خير على دعمك.
_

بعد شهر كامل، نُفذ القصاص على مبارك، وبقي فتحي وناصر في السجن لأربع سنوات قادمة،
 جزاء ونكالا على صنيعهما!
اتصل عمير بـطارق راجيًا إياه أن يأتي ليجد حلّا لمشكلة عثمان..
كان طارق جالسا مع عمير والأخير يقول له في حزن: عثمان فقد حيويته ونشاطه،
 أصبح حزينًا وشاردًا، أغمي عليه أكثر من مرة في الأسابيع الأخيرة، لم يعد يهتم بصحته! 
أرجوك يا طارق حاول أن تتكلم معه!
تنهد طارق وعلى وجهه هم كبير، ثم وقف قائلا: أين هو؟
شعر عمير بامتنان لطارق الذي تفهمه فأجاب: في غرفته!
ثم قاده إليها، انتظر طارق عمير وهو يفتح الغرفة ويُخبر عثمان بالخبر ثم يخرج، 
وينظر لطارق بعينين مملوءتين بالرجاء والامتنان، فابتسم طارق ونظر له نظرات مُطمئنة، 
ثم دخل على عثمان الذي كان مستلقيًا على سريره في كآبة، والغرفة مُظلمة، وهو ينظر سارحا إلى السقف!

بمجرد أن رأى طارق حتى استوى جالسا على سريره، ونظر إلى طارق مرّحبا بقول خافت:
 أهلا ومرحبا بك يا أستاذ طارق!
ابتسم طارق وهو لا يزال واقفا عند الباب، ثم سأله: لمَ لا تفتح ضوء غرفتك؟
عثمان قال: الضوء يؤلم عيني، ولذلك أحب العتمة.
وما إن أنهى جُملته حتى فتح طارق الضوء فوضع عثمان يده على عينيه منزعجا، 
فأغلق طارق الضوء واقترب من سريره ثم جلس بجانبه وهو يقول:
بل قُل إنك تخشى أن يرى والدك شحوبك ودموعك إذا فتحت ضوء غرفتك!
تضايق عثمان من معرفة طارق لهذه الحقيقة فأشاح بوجهه دون أن يرد،
 وبالفعل كان وجهه مصفّرا ورموشه مبللة بالدموع، اقترب طارق منه وأمسك ذقنه وأجبره على مواجهة نظراته، 
ارتبك عثمان وهو يشاهد عيني طارق الثاقبة وهو يسأله: لمَ لم تعد تهتم بصحتك؟
أبعد عثمان وجهه وهو يقول: ومن قال ذلك، لقد عُدت لتوّي من مركز الرياضة.
تنهد طارق قائلا: 
ولكنك لم تعد تهتم بغذائك! والدك ووالدتك يعانيان القلق بسببك، أهذا ما عاهدك عليه بهاء؟

بمجرد أن قال اسم بهاء حتى شعر عثمان بغصة مريرة في حلقه.
 فضمّ ساقيه وجلس متكورا على نفسه ثم دفن رأسه بين ركبتيه مغمغما باختناق:
 لم يعاهدني على شيء.. كان يقول إننا سنظل مع بعضنا، لكنه غدر بوعده، لقد اختار الرحيل عني!
ردد طارق في استغراب: غدر بوعده؟
رفع عثمان رأسه في حدة والدموع تفيض من عينيه الذابلتين وهو يصيح: 
نعم لقد غدر به، لماذا تركني وحيدا؟ لقد قلت له أن يكون حذرا، قلت له أني قلق عليك، 
قلت له ألا يستخف بأعدائه، ولكنه كان يرمي بتوصياتي عرض الحائط ويسخر من مشاعري وخوفي عليه!
 ويبدو أنه وثق بمبارك بسبب غبائه وهذا ما أودى بحياته! كان مخطئا!
ثم أخذ عدّة أنفاس لاهثة قبل أن يقول بألم: 
لو كان لا يزال حيّا _رحمه الله _، لعاتبته وقلت له كل ما في خاطري ولكنني.. 
لا أجد أي إنسان مخلص بجانبي يفهمني، لو قلتُ هذا الكلام أمام أبي لظنّ أنني أتسخط على قدر الله.
ثم أنزل رأسه وراح يمسح دموعه التي بدأت بالنزول رغما عنه،
 ابتسم طارق بسمة أبوية حنونة ثم اقترب وربت على ظهره قائلا: 
وأين أنا؟ ألم تفكر بأن تفضفض لي يا بني؟

قال عثمان بخفوت:
 أنت في مقام والدي الثاني يا أستاذ طارق، 
ولكنني لا أريد الإثقال عليك فابنك الوحيد قُتل من شهر واحد وزوجتك لا تزال في غيبوبة قاسية
 وظروفك صعبة جدا ولن تفرغ لشاب تافه مثلي.
تمتم طارق باعتراض: 
إذن أنا لست والدك الثاني! فلو كنت تعتبر نفسك ابني حقا لما فكرت بهذه الطريقة.
سكت عثمان وطارق يُكمل في جدّية: 
رغم أشغالي وعملي إلا أن بهاء لم يكن ليبتعد عني يوما، فقد كان يثرثر معي كل يوم ويقول لي كل ما بدا له، 
مع أنه يعلم أنني لست فارغا له، لكنه كان يعتقد أنه من حقه كابن لي أن أخصص له وقتا ثابتا كل يوم وألا أتجاهله أبدا.. 
ولهذا، إن كنت تعتقد أنك ابني يا عثمان وأنا أبوك الآخر فعليك أن تفكر بهذه الطريقة.
ظهر في عيني عثمان التأثر بما قاله فأنزل رأسه متأسفا، ثم غمغم: 
أعترض معك يا أستاذ طارق.. في هذه المسألة!

ثم ابتسم بإحراج ثم قال:
 هذا صحيح، فبهاء كان يُخفي عليك كثيرا الأشياء التي ربما تضايقك، فقد كان من أولوياته مراعاة الحالة النفسية لك،
 لقد كان يثرثر معك كل يوم لكيلا يُشعرك بأنه بعيد عنك، لكنه في الواقع لم يكن يُخبرك بمشاكله وهمومه.. 
كثيرا ما حللنا أنا وهو مشاكلنا مع بعضنا دون أن يعلم أُيٌ من والدينا،
 وفعلنا العديد من المغامرات ولم يعلم أحد بنا إلا الله!
ابتسم طارق سارحا: 
كنتُ أعرف ذلك من عينيه لكنني أنتظره أن يخبرني، وغالبا لا أستطيع قراءة ما في عينيه.
سكتا لبعض الوقت وكل منهما يتذكر ذكريات خاصة مع بهاء، بعدها تنحنح طارق وهو يقول:
 بالمناسبة يا عثمان، الأمر الذي ذكرته في بداية حديثك!
ثم أكمل بعد دقائق صمت: أن بهاء غدر بوعده لك!
تهرب عثمان بعينيه ثم قال: نعم أنا أعتقد ذلك بالفعل!
فقال طارق معاتبا: 
يبدو أنك لم تعلم بعد ما قاله بهاء ليلة الخميس، ولم تسمع ما قاله مبارك قبل القصاص منه!
قال عثمان: ماذا قالا؟

قال طارق:
 في تلك الليلة كان بهاء ضعيف العزيمة ومحّطم الإرادة فعلا، لقد كان يستجيب لكلامك، الخائف والقلق عليه،
 ولابد أنه كان يتأثر بعمق من تعليقاتك يا عثمان ولكنه كان لا يُظهر ذلك لأحد،
 وفي تلك الليلة أباح لي بكل ما يجول في خاطره فقد كان خائفا عليك ومتأثرا بسببك! 
عثمان، بالله عليك سامح بهاء إذا أغضبك في شيء وإذا ضايقك، فأنا أعلم حتما أنه ما كان يقصد أبدا!
 لقد كنت بالنسبة إليه أخاه الأول والعزيز والحبيب.
أنزل عثمان رأسه بصمت ثم غمغم بحب متألم: هل تطلب مني مسامحته؟ سبحان الله!
ابتسم طارق ثم أكمل: وأما عما قاله مبارك، فقد قال عند استجوابه الحقيقة كاملة،
 لقد جعل بهاء يثق به بسبب أنه استحلفه بالله، ثم استغل فرصة لادّعاء محبّته والرغبة في عناقه وحينها فعل فعلته.
 وأنت تعلم يا عثمان أن أي مؤمن يعظّم الله في سره وجهره سيستجيب، إذن، أتلوم بهاء أنه استجاب لاستحلافه بالله؟
رفع عثمان عينيه السوداويتين النقيتين، ثم قال: لا.. لا ألومه!

شقت الابتسامة طريقها إلى فم طارق وهو يقول له: إذن.. هل رضيت الآن عن صديقك؟
تنهد عثمان بألم وابتسم ابتسامة حزينة ونزلت دمعتان حارّتان من عينيه بسرعة
 وكأنهما يتسابقان أيهما ستسقط أولا على ملابسه! ثم قال بصوت خافت: 
بالتأكيد! المهم هو أن يكون راضيا عني قبل موته وألا يغضب مني! لقد كان.. كان..
ثم سكت مختنقا وشعر أنه سيجهش بالبكاء مرة ثانية، فقال طارق متبسما:
 اطمئن، بهاء منذ صادقك وهو يحكي لي كثيرا عن صدقك وأخلاقك ورقة قلبك عند سماع القرآن، 
بل وعن صوتك الهادئ الخاشع الباكي عند تلاوته، لقد كان يحب سماعه من فمك كثيرا! 
حتى أحببت صوتك دون أن أسمعه من حديثه عنك!
أخفض عثمان رأسه وكأنه وردة ذابلة، وهو يهمس:
 لقد كان هو أرق مني قلبا! فقد كنت أرفع نظري عن المصحف أثناء قراءتي لأجد الدموع عالقة برموشه 
فيقول لي وكأنه لم يحصل شيء: أكمل يا عثمان!
أخذ طارق نفسا عميقا ثم قال:
 رحمه الله وتقبله عنده من الشهداء! المهم يا عثمان.. كيف أحوال حفظك للقرآن؟ لمن تسمّع هذه الأيام؟
غمغم عثمان بشرود: أسمّع لنفسي.
ردد طارق وفيه بعض الدهشة: لنفسك؟ ولم لا تسمع لأبيك أو أمك؟
هزّ عثمان رأسه نافيا ثم قال بعينين حزينتين: 
إنني أسمّع أجزاء طويلة، ولا يمكن أن أؤخر أمي بتسميعي فخالتي ولدت مولودا جديدا منذ أيام
 وهي تنشغل هنا وهناك عند الأهل والأقرباء، ولا تفرغ لي إلا قليلا، 
كما أن أبي مشغول بعمله في قسم الشرطة بعد ترقيته الجديدة التي نالها!
ربت طارق على يديه مغمغما:
 إنه بالفعل يستحق ترقيته فقد كان رجلا مخلصا ومتقنًا لعمله!
ثم قال بعد سكوت: ما رأيك أن تسّمع لي أنا؟

نظر له عثمان بدهشة ممزوجة بالفرحة ثم قال: حقا؟ ألا تخشى أن أُشغلك عن أعمالك؟
مد طارق يده لأذن عثمان ضاحكا: 
ماذا قلتُ لك قبل قليل؟ 
أنت ابني وأنا لدي من الوقت الفارغ ما يكفي للتسميع كما أنني سأسعد بسماع صوتك العذب هذا!
تأوه عثمان بألم وهو يبتسم لأول مرة بصدق:
 آه حسنا سأسمع ولكن اترك أذني! أدركت الآن كيف كان بهاء يتعذب حين تشد أذنه!
ضحك طارق من قلبه وهو يترك أذن عثمان، ثم قال بعد بهجة شعر بها في قلبه:
 حسنا إذن ما رأيك أن تأتي لي غدا في المنزل؟
 لنفطر سوية ونشرب الشاي وبعدها تسمع لي الأجزاء التي تريد.. ما رأيك؟
أومأ عثمان برأسه في بهجة وتبسم في هدوء ثم قام الاثنان من على السرير واقفين، 
صافح طارق عثمان وهو يشد على يديه مسرورا: أنتظرك غدا! هيا مع السلامة!
وجاء ليسحب يده من يده لكن عثمان نظر له بتردد نظرة طويلة عميقة فتساءل طارق بخفوت: ما بك؟
فوجئ به يرتمي معانقا له في تأثر وعثمان يقول بصوت مبحوح متهدج: أشكرك!
ابتسم طارق بحنان ثم ربت بحنوّ على ظهره مغمغما: علامَ تشكرني؟
قال عثمان بصوت باكٍ: على كل هذا الدعم والاهتمام!
ضحك طارق وأبعده عنه برفق ثم قال: هذا واجبي نحو ابني الثاني،
 كما أن عليك أن تخاف من شدّ الأذن فأنا كنت أشد أذنه عندما يشكرني ببلاهة كطريقتك التي فعلتها للتو، 
هيا لا تؤخرني أكثر من ذلك، إلى اللقاء غدا!
ثم أمسك رأسه وقبّل جبينه بحنان كما كان يفعل مع بهاء تماما، وانصرف دون أن ينظر إلى عيني عثمان الممتنة!

خرج عثمان ورافقه إلى البوابة، ثم استدار وقابل والده الذي ابتسم بفرحة قائلا:
 ما شاء الله، أرى الفرحة بعينيك، إذن فقد استطاع هذا الرجل الشهم إخراجك من حالتك!
ابتسم عثمان دون أن يعلّق ثم سلّم على والده وقبّل رأسه قائلا: 
أنا آسف يا أبي للقلق الذي تسببت به لكم، لن أعيدها مرة أخرى بإذن الله!
أخذ عمير نفسا عميقا مشبعا برائحة السرور والرضا على ابنه، 
وتعجب كثيرا من أسلوب طارق ومنطقه في التعامل مع أمثال هؤلاء الشباب!

قال عثمان في لهفة: أين أمي؟
أشار إلى المطبخ قائلا: إنها هناك!
دخل عثمان وابتسم وهو يرى أمه منهمكة في إعداد العشاء وغير منتبهة له،
 ذهب من ورائها ووضع يديه على عينيها وحاول تغيير صوته قائلا: من أنا؟
شهقت في هلع وهي تشعر بهاتين اليدين، ثم قالت معترضة: عمير لا تفعل هذا وأنا أحضر العشاء!
ثم تحسست يديه اللتين على عينيها فوجدتهما لينة ذو جلد طري، فضحكت متفاجئة: عثمان؟
ضحك عثمان قائلا وهو يُبعد يديه عنها: كشفتني يا أمي!
استدارت له بدهشة وهي ترى ضحكته الصادقة لأول مرة منذ شهر كامل، ثم هتفت في بهجة: لقد ضحكت!
قال له مازحا: نعم أرأيت؟ سبحان الله! إنني أضحك! يا لهذه المعجزة!
قالت متعجبة: سبحان مغير الأحوال!
 قبل ساعتين كنت تعتكف في غرفتك وحيدا حزينا والآن صوت ضحكتك يصل إلى السماء!
قال باستفزاز وهو يمثل التعجب: وهل ركبت ضحكتي الطائرة حتى تصل إلى هناك بتذكرة أو بدون تذكرة؟
ضربته على كتفه معاتبة وهي تقول: كف عن سخريتك هذه يا ولد!
ضحك وهو يحضنها من الخلف قائلا: وماذا إن لم أفعل يا أماه!
أبعدته ضاحكة عن حضنها: هذا ليس وقت جرعة الحنان التي أعطيها لك كل يوم! إنني أحضر العشاء الآن.
أمسكها قائلا: 
لا يا أمي أنا لم أحصل على كفايتي من الحب بعدُ، 
لقد قرأت مرة أن الفتى المراهق بحاجة إلى اثني عشر حضنا في اليوم،
 وأنا لم أحصل إلا على واحد! أين بقية الأحضان؟
ثم غمز لها قائلا: أم تريدينني أن أتجه إلى أخرى تمنحني الحب والأحضان؟
ضحكت وهي تقول غاضبة: يا لك من مستفز! سأعطيك الحب والحنان بعد إعداد العشاء! هيا اذهب عني!
ضحك على غضبها قائلا بعناد: لا.. لا.. أريد الحصول على جرعة الحب الآن! لن أخرج!
هتفت بنفاد صبر: عميـــــــــــر تعال لتُخرج ابنك من المطبخ وإلا فلا عشاء لك.
ثم راقبت خديجة عثمان بغضب وهو يُطلق ضحكة عالية ويخرج مغمغما:
 لا..لا.. إلا العشاء فأنت لا تعرفين مدى جوعنا!
_

 جهز طارق مائدة الإفطار ثم راح لينادي عثمان الذي كان يرتب الصالة ريثما ينتهي طارق،
 كانت الصالة مرتبة وعثمان غير موجود فيها، انتبه طارق إلى عثمان القادم من الحمام وهو يجففهما بالمنشفة قائلا: 
كنت أغسل يديّ..
قال طارق: 
هيا، الإفطار جاهز، سأسبقك!
ثم ذهب قبله، تبعه عثمان على عجل ولكن اصطدمت عيناه بباب غرفة على زاوية الممر، 
هذه الغرفة لها باب رمادي باهت، في أعلاه شريط أبيض صغير كُتب عليه بخط بهاء: بهابيهو!
شعر عثمان بارتجاف يسري في جسده وبقدميه يجرّه إلى ذلك الباب،
 فتحه ببطء شديد وأغمض عينه بألم وهو يحس أن بهاء في الداخل!
رأى بهاء جالسا على سريره يقرأ أحد الكتب النافعة، 
ثم يرفع له رأسه متبسما ويترك الكتاب على الخزانة التي بجانبه ويقوم واقفا!
انتبه عثمان أن هذا مجرد تخيل،
 فزفر بحرارة وألقى نظرة حزينة على غرفته الهادئة الساكنة التي ينتشر فيها لون الرمادي والأسود والأبيض بصورة كبيرة، 
أشياؤه تجعل الذي لا يعرف بهاء يخاف من شخصيته، لكن الذي يعرف بهاء كعثمان يطمئن جدا إليه!
وقعت عينه على مكتب بهاء، وعلى مقدمته كتابه الذي كان بهاء يترجاه أن يشرح له إحدى المسائل فيه،
 وتذكر كيف كان يأكل الحلوى ويتشاجر معه بسببها قبل يوم واحد من وفاته!
كثيرا ما زارَ عثمان هذه الغرفة، لقد ضحك بهاء هناك، وكان يصلي معه قيام الليل في الإجازة الصيفية هناك،
 وكان عثمان يسمع له القرآن على تلك الأريكة الصغيرة هناك، وهـنـ...
"عثمان! أين أنت"
استيقظ من ذكرياته على صوت طارق القادم من المطبخ،
 فأغلق باب الغرفة وتنهد تنهيدة طويلة ثم مضى إليه ليفطر معه.
_

في اليوم التالي اتصلت والدة غدير بطارق وهو يقطّع فاكهة في المطبخ، قائلة:
 أستاذ طارق.. نحتاجك في أمر خاص!
غمغم بقلق: ماذا؟ هل في غدير شيء..
تأتأت أم غدير: آآ الأمر متعلق بها!
سقط قلبه أرضا خصوصا أن أم غدير تبدو مضطربة ومتوترة، فأسرع بسؤالها: ماذا جرى لها؟
أجابته بلهجة مبهمة: لا وقت للشرح يا طارق، أسرع إلى هنا!
ردد باستغراب: هنا؟ تقصدين المستشفى التي ترقد فيها غدير أم المنزل؟
أجابت: لا لا.. بل المنزل! هيا.. أسرع!
ثم أغلقت الخط فعقد طارق حاجبيه بحيرة ثم أدخل الطبق سريعا إلى الثلاجة وهرول إلى سيارته.
رحّبت به أم غدير وأجلسته في مجلس الضيوف ثم أحضرت الشاي ووضعته على المنضدة، غمغم طارق في ضيق:
 أرجوك أنا لم آت هنا لشرب الشاي...! أخبريني ماذا حدث لغدير؟
ترددت وهي تجلس قائلة: سأخبرك ولكن أرجو ألا تغضب!
عقد حاجبيه في حدّة فإنها إذا قالت قولها هذا، فذاك يعني أن هذا شيء حتما سيغضب طارق كثيرا!
ترددت وهي تقول: في الحقيقة لقد أفاقت غدير من غيبوبتها..
قاطعها بفرح: وهل هذا شيء يًغضبني؟
ثم ابتسم ببهجة لها ولكنها توترت أكثر وهي تقول: لم أُكمل بعدُ.

عرف أن في الأمر شيئا فتركها تُكمل حديثها: أفاقت منذ ثلاثة أيام، وأخرجناها من المستشفى..
ردد بدهشة: أخرجتموها؟ كيف وأنا الوحيد الذي أستطيع توقيع وثيقة خروجها فأنا زوجها.
تابعت: نعم، ولهذا.. فقد تظاهر زوج أختها الأستاذ أحمد أنه زوجها ووقع وثيقة خروجها ودفعنا مصاريف خروجها كاملة!
انتفض طارق وهو يقف قائلا بغضب مكتوم: كل هذا حصل دون إخباري؟!! ولمَ فعلتم كل هذا؟
أمسكت يده قائلة: لقد قلتٌ لك ألا تغضب!
جلس وهو يشعر أن قلبه ينبض بسرعة ودمه يغلي من الغضب، فقالت:
 في الحقيقة، أسبابنا ستعرفها حين تتحدث مع غدير..  فأنا في الواقع اتصلت بك من أجل ذلك، إن غدير..
ثم سكتت قليلا فقاطعها في حدّة: ماذا فعلتم في غدير أيضا!؟
تنهدت: 
غدير منذ خرجت من المستشفى وحالتها تتدهور يوما بعد يوم،
 لم تستجب لنا حين طلبنا منها الدخول إلى مركز التأهيل فجسدها مخدّر
 ولم تعد تستطيع المشي على قدميها بسبب هذه الغيبوبة التي أبقتها شهرا كاملا دون حركة!
 إنها طريحة الفراش ومريضة جدا، حاولنا إعادتها للمستشفى لكنها رفضت بشدة، إنها يائسة كثيرا يا طارق..
 في الحقيقة كنت أنوي ألا أخبرك بخروجها أبدا إلى حين يكتمل ما في بالي، ولكنني رأيتها تموت بين يدي،
 تذبل وتنهار وأنا عاجزة عن إنقاذها.. فلم أجد بُدّا من الاتصال بك!

عقد طارق حاجبيه بحدة ثم غمغم بسخرية: ما في بالك؟ وما هو ما في بالك يا سيدة سلوى؟
قالت بضيق: قلتٌ لك ستعرف إذا تحدثت مع غدير..
قام ومشاعره مضطربة بين الشوق إلى غدير زوجته الحبيبة التي غابت عنه شهرا كاملا زيادة إلى أسبوع،
 وبين الخوف من هذه الأمور المبهمة التي تُشير لها حماته دون أن يعرف مقصدها،
 والغضب المتفجر من داخله بسبب ما فعلوه دون علمه، فقد زيّفوا توقيعه! بل وأخرجوها أيضا دون إخباره!
قادته حماته إلى غرفتها ثم قالت له في ضجر: افتح الباب وسترى الجحيم بالداخل!
نظر لها مندهشا بغضب: لمَ تقولين عنها ذلك، ثم عليك أن تطرقي الباب وتخبريها بقدومي!
زفرت في ملل ثم قالت مستهزئة: 
لن يفرق معها شيئا أن تعرف قدومك أو لا، فحالها ميؤوس منه، أما عن طرق الباب، فأنت على كل حال زوجها!
ثم نظرت له نظرة خاصة وانصرفت!
ولم يسمعها وهي تهمس في حُنق: 
لا أدري لمَاذا تلك الفتاة متعلقة بك كل هذا التعلّق؟ ألا تعلم أنك ستتخلى عنها لمرضها وغبائها؟ 
 لا أدري لمَ تُصر على بعثرة كرامتها أمامك بهذا الشكل؟

شعر طارق بالتوتر الشديد من هذه المعاملة الغريبة، 
كثيرا ما كان يعرف أن حماته تكرهه ولكن لا يدري ما السبب ثم إنها لم تكن تعامله بهذا الأسلوب الجاف من قبل.. 
نظر إلى الباب وطرقه لكنه لم يجد أي ردّ، ففتحه ودخل بهدوء، إلى غرفة مُظلمة يُنيرها ضوء الشمس القوى،
 فتُظهر بوضوح ذلك الجسم النائم على السرير الكبير في الغرفة وهو يوُجه وجهه إلى ناحية أخرى!
اقترب كثيرا منها وقد كانت ساكنة الحركة، تنفسها كان واضحا، إذن إنها مستيقظة!
مدّ جسمه ونظر إلى وجهها، عيناها متورمتان من البكاء وتحت عينيها هالة سوداء،
 وشعرها الحريري الناعم مبعثر بدون ترتيب حول رأسها على الوسادة..
 بشرتها كانت بيضاء متوردة كعادتها، لكن الغريب في الأمر أنه لشدة توردها فقد أحمر وجهها وكأنها حارّة!
شعر بأنها تُعاني من الحمّى فمدّ يده ليضعها على جبينها وردّها بسرعة عندما شعر بسخونتها، 
وانتبه أنها حّركت يديها ووضعتهما على أذنيها وهي تصيح بصوت واهن مبحوح: 
يكفي يا أمي، دعوني وحدي، بهاء ذهب عني، اتركوني أذهب لبهاء، ابتعدي..
 ابتعدي عني! آآآه لا أريد سماع أصواتكم! ارحموني!
شعر طارق بشفقة شديدة على حالها، ودُهش وهو يراها تقول هذا الكلام، 

مدّ يديه وأمسك بيديها وأبعدها عن أذنيها برفق وهو يقول: 
اهدئي يا عزيزتي أنا لستٌ والدتك! بسم الله عليك.
وجدها تسكت وتفتح عينيها الذابلتين بصعوبة، ثم همست في ضعف: طارق؟!
ابتسم لها وهو يجلس:
 كيف حالك يا غدير، أتعلمين أنني اشتقتُ إليك كثيرا، آه.. أشعر بالوحدة الشديدة لعيشي في المنزل بمفردي..
لم يبدُ عليها أي تأثر بل نظرت له بدهشة، وارتعشت شفتاها وهي تمتم: 
أي منزل؟ لا أريد العودة! لا.. بهاء ليس هناك لا.. إذا كان هناك فأنا سأذهب.. أآآه.. لا..
اقترب منها طارق بقلق، وهو يهدئها بلطف، لكنها أغمضت عينها ثم سقطت يدها بجانبها على السرير،
 اتسعت عينا طارق دهشة وخوفا، اقترب منها ولطم خدودها الساخنة برفق: 
غدير.. استيقظي يا حبيبتي.. لا تقلقي لن أعيدك إلى المنزل لو لم ترغبي بذلك.
ولكنها لم تستجب له، التفت حوله بحثا عن أي شيء ينقذها، خرج من الغرفة بسرعة، 
كان قلبه ينبض بعنف فقد كانت حالة غدير تبدو أمامه سيئة جدا، وصحتها متدهورة تماما، سلك الممر الجانبي وهو ينادي:
 سيدة سلوى! أرجوك أقبلي ...!
ولكنه كاد يصطدم بامرأة قادمة على أثر ندائه المستمر، 
تراجع في خطواته ثم أنزل رأسه وغض بصره مُحرجا، ثم قال: أنا آسف لتجوّلي في المنزل بدون داع! ولكن غدير.. أ
قاطعته بهدوء: أنت الأستاذ طارق زوج أختي؟ أنا علياء أختها الصغرى، ماذا بها؟
انتبه أنها تحمل صينية طعام وتتجه بها إلى غرفة غدير، فقال في قلق: نعم أنا طارق، غدير أغمي عليها و.
وجدها تتنهد في ملل: يُغمى عليها كثيرا هذه الأيام! من فضلك اتبعني..
دخلت إلى غرفتها وأمسكت قطعة بصل من طبق موجود على الصينية ثم جعلتها تشمّها، وطارق يراقب وهو واقف على الباب،
 أفاقت غدير بضعف وهي تأنّ، فقالت لها علياء ببرود: أحضرتُ لك الطعام، أتمنى أن تتناوليه هذه المرة!

ثم خرجت من الغرفة بعد أن أفسح لها طارق المجال،
 أغلق الباب ورائها ثم اتخذ كرسيا بجانب غدير وجلس عليه، وقال لها مشفقا:
 حمدا لله.. عزيزتي، ما بك؟ غدير.. حالتك هذه تقلقني بشدة!
كانت تفتح عينيها وتغلقهما مرارا، أمسك بذقنها وجعلها تنظر له فأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى في اكتئاب،
 زفر وفيه قلق كبير على غدير، رأى حالها فظيعا يُدمي قلبه الذي يحبها ويقدّرها كثيرا!
حاول أن يناديها بلطف ورجاء لكنها ظلت لا ترد، قام من كرسيه متنهدا ثم جلس إلى جانبها على السرير،
 وأمسك بكتفيها ورفعها برفق ليجعلها تستند إلى الوسادة التي خلفها، ولم ترفض هي فقد كانت قواها خائرة عاجزة عن التحرك!
ونظر هذه المرة إلى وجهها ففوجئ بدموعها التي تنهمر انهمارا دون صوت، أطلق آهة متألمة وهو يراها بهذه الحال! 
مسح دموعها بيده وهو يقول لها بتوسل: هيا يا غدير كفي عن ذلك! لمَ تبكين الآن؟ أرجوك!
عيناها كانت تائهة وشاردة، قال لها طارق بحزن وقد خشي أن يُغمى عليها مرة ثانية: 
أرجوكِ.. غدير.. هيا كُفي عن البكاء...! من أجلي..
ولأول مرة رفعت نظرها إليه فابتسم بحب وهو ينظر لها مشجعا، كانت نظراتها غريبة فيها معانٍ عميقة لم يفهمها طارق،
 ولكنه تجاهل ذلك وهو يربت على كتفها قائلا يُصبّرها: 
بهاء كان أمانة عندنا وقد أُعيدت الأمانة إلى صاحبها، 
عزيزتي بهاء رحل ولن يعود، نحن من سنرحل له خلال وقت قصير فهذه الدنيا أقصر مما تتصورين، فليس علينا أن نكون بهذا الحزن!
 فما أسرع مرور الأيام والليالي، والدليل..
ثم ابتسم وغمز لها: أنني استطعت تحمّل فقدانك كل هذا الوقت!

أخفضت رأسها في سكون ومازالت عينها متألمة وحزينة، فقال بصوت هادئ له نبرة حنونة:
 الحقيقة أنني لا أدري كيف صبرت على خلوّ المنزل منك يا غدير!
 بل لن تصدقي حزني العميق حين غبت عن وعيك شهرا كاملا، 
شعرتُ فيها أنني بلا روح في المنزل وأصبحت أخاف أن أقعد فيه لأنك لست فيه!
وعلى عكس ما توقع طارق أنها تبتسم، فقد أجهشت بالبكاء بقوة، 
وأخفت وجهها بين يديها، شعر بدهشة وصدمة وهو يتساءل في استغراب: 
ما بكِ يا غدير، لابد أن هناك أمرا ما لا أعرفه!
تابعت بكائها دون أن ترد عليه، فقال في جدّية:
 أريد أن أستفسر منك، لماذا أخرجوك من المستشفى دون أن يُخبروني؟ ولماذا زيّفوا توقيعي يا غدير..
ازداد بكاؤها فأيقن أن في الأمر شيئا غريبا،
 أمسك يديها برفق وأنزلهما ليرى وجهها المحمّر من البكاء وعينيها الذابلتين ورموشها المبللة، حاول أن يجعل صوته رقيقا: 
ما بك! لطالما كنتِ تُخبرينني عن كل صغيرة وكبيرة، غدير! 
إن في عينيك معانٍ كثيرة لم أفهمها، وأستطيع أن أقرأ بوضوح في وجهك أنك تُخفين عني شيئا! هيا.. أخبريني..
سكتت قليلا وهي تمسح دموعها، وشعرت بدوار مفاجئ يجتاحها فأمسكت برأسها بألم، 

شعر طارق بالخوف عليها فأسندها إلى الوسادة وجعلها تسترخي عليها قائلا بقلق ممزوج بالعصبية:
 لقد قلت لك لا تبكي! أرجوكِ تحملي ولا تفقدي وعيك ثانية!
أخذت نفسا عميقا وهي تغمض عينيها، ظلّا لفترة طويلة ساكتان
 وطارق يتأملها وهي مغمضة العينين وتحاول أخذ أنفاسها بوجهها المحمّر وعينيها المتورمتين من البكاء.
ثم همس لها قائلا: منذ كم يوم لم تأكلي شيئا؟
أجابت بنفس الهمس: منذ يومين!
اتسعت عينا طارق دهشة وضيقًا، ثم قال محاولا الحفاظ على أعصابه:
 لمَ تفعلين بنفسك هذا يا غدير!؟ أخبريني! هيا عليك أن تأكلي الآن.. ولن أقبل أي عذر منك.
ثم أمسك أحد أطباق الحساء وهو يقول آمرا بجدّية: لن أتركك إلا وقد أكلتِ كل ما في هذه الصينية!
قالت بصوت خافت متقطع وهي تفتح عينيها بصعوبة: لا.. طارق! انتظر.
ثم أمسكت يده واستندت على ذراعه لتستوي جالسة، وظلّت تلهث وكأنها فعلت مجهودا خارقا،
 حتى أن زخّات العرق ظهرت على وجهها الشاحب!

بدت له ضعيفة للغاية، عكس ما كانت عليه من حيوية وبهجة وسعادة من شهر واحد فقط!
شعر بلوم كبير في ضميره، لا يدري ما هو ذنبه، ولكن قلبه آلمه كثيرا على حالها، وقال لها راجيا:
 انتظر ماذا يا غدير!؟ ألا ترين صحتك التي تتدهور لحظة بعد لحظة!؟ هل تريدينني أن أفقدك أنتِ أيضا؟
نظرت إلى عينيه الحزينتين فعلمت بصدقه وإخلاصه، فقالت بارتباك وبصوت مبحوح:
 أتقصد.. أنك.. حين تفقدني، سـ.. تحزن علي؟
قال لها بدهشة: طبعا يا غدير! أنتِ إحدى نعم الله العظيمة علي، وأنا أشكره كل يوم عليها!
ابتلعت ريقها وقد ارتفع حاجبها في دهشة وتوتر، خصوصا عندما اقترب منها حتى صارت أنفاسه في وجهها وقال: 
ما بالُك؟ ما هذا السؤال الغريب؟ ماذا تُخفين عني ها؟
ابتعدت عنه مضطربة، ثم لمعت عيناها بالدمع، وهو سكت متأملا لها؛ علّه يفهم شيئا من ملامح وجهها.
قالت مختنقة بدموعها: تعدني ألا تقول هذا لأمي!
ردد باستغراب: أمك؟ وما علاقتها بالأمر الذي تُخفين؟
قالت في عصبية وارتجاف: عِدني وحسب...!
تنهد وقال لها مُطمئنا: أعدك ألا يصل هذا الكلام لمخلوق أبدا! هيا أفصحي لي عما بداخلك!
ونظر لها بعينيه العميقتين مُطمئنا، فزفرت بحرارة قبل أن تقول وهي تنظر نحو النافذة وستائرها المزخرفة بالورد:
 في الحقيقة لقد أقنعتني أمي أنك ستتخلّى عني قريبا، وتطلقني!
قال طارق بقمة الحيرة والذهول: أتخلى عنك وأطلقك؟ لماذا؟
قالت متألمة وهي تخفض رأسها:
 لأنك لا تستحق امرأة مثلي، تستحق أفضل مني، أنا مريضة ولا أستطيع الإنجاب منذ ولادة بهاء، 
ولا أريد إضاعة وقتك ومالك في علاجي وإجراء تلك العملية باهظة التكاليف!
وحتى لو أجريتُها فنسبة خطرها كبيرة جدا قد تتسبب لي بالموت، وفي كل الأحوال لا فائدة مني!
 والآن أنت ما زلت في الثانية والأربعين من عمرك، 
تستطيع أن تتزوج من هي أفضل مني وتُنجب لك أولادا وليس ولدا واحدا تربيهم كتربية بهاء بل وأفضل!

ثم سكتت وهي تشعر بغصة مريرة في حلقها، وبدمعة حارة تسيل على خديها، وبوجهها يتوهج احمرارًا واضطرابًا!
لكنه قال بصوت مكسور: لم أظن أنك تفكرين هكذا بعد وفاة بهاء!
نظرت له وفوجئت بملامح الألم على وجهه وكأنها ألقت عليه خبرا أليما حزينا،
 كانت تظن _بسبب ما أقنعته به أمها_ أنه سيفرح بقولها كثيرا، ويطلقها في أقرب وقت ليستريح منها ويعيش حياته بعيدا عنها،
 فيما تعيش هي حياتها مُطلقة وثكلى تنعى ولدها كل عام حتى تموت!
ولكن خاب ظنها، فها هي تراه الآن يقول لها بصوت خافت لاهث: غدير!
ارتبكت وهي ترى نظراته اللائمة، شعرت أن ما قالته عذّبه كثيرا، سمعت صوته قائلا برجاء: 
أنا لا أريد التخلّي عنك أبدا! أريدكِ أنت فقط، بروحك الجميلة النقية وابتسامتك الصافية،
 ولن أطلقك أبدا أو أتخلى عنك.. لمجرد أنك مريضة ولا تستطيعين الإنجاب!
شعرت بجدّيته في الحديث، فرفعت نظرها إليه مرة أخرى ورأت في عينيه إصرارا وقوة وهو يقول لها مؤكدا:
 ثقي أنني أحبك كثيرا، وأفتقدك في منزلك، ولم أكد أصدق أنك أفقت من الغيبوبة لنعود للعيش معا!
سعدت بكلامه كثيرا، ولكن شعرت بوخز مؤلم حين قال: ومن دون بهاء هذه المرة!
تنهدت ثم قالت: أتعني أنك.. لن.. تنفذ ما قالته أمي عنك؟

هزّ رأسه نافيا ثم قال:
 ما قالته أمك هراء! إن والدتك تحب الاعتزاز بنفسها كثيرا ولا تطيق أن تذل بناتها لأي رجل، بسبب ما فعله والدك لها منذ سنوات، كرهت جنس الرجال جميعًا، لهذا أرغمت ابنتها الكبرى غالية على الطلاق من زوجها لمجرد أنه أساء إليها دون قصد!
 ولهذا أيضا تخشى من نظرتي المشفقة لك فتحثك على طلب الطلاق مني بكرامة قبل أن أملّ منك أنا وأطلّقك بإرادتي،
 لكنها لا تضع حسابا لمشاعري ومشاعرك! أنا آسف لتحدثي بهذه الطريقة عن أمك ولكن..

قاطعته بإحباط: 
أنا أعلم قبلك نفسية أمي، ولكن حيث أنني خرجت لتوّي من غيبوبة عميقة، وكنت مشتتة الفكر شاردة الذهن، لم أرك بجانبي، 
ورأيت أمي تقول لي أنك قد تخليت عني ولم تعد ترغب بي! 
حزنت كثيرا لهذا وحاولت ألا أهتم.. ولكن حالتي النفسية ساءت كثيرا، كلما تذكرت بهاء رحمه الله وكلما تذكرت أنك تخليت عني!
ثم ابتسمت بامتنان: لكنك خيبت ظني، طارق.
ابتسم لها بدوره وهو يرفع الصينية بالطعام قائلا بحزم:
 هيا إذن كُلي لتستطيعي الوقوف على قدميك والعودة إلى منزلنا! واشتقت كثيرا لطعامك الشهي،
 آه لو تعلمين كم كنت أتناول الطعام الذي أصنعه بيدي مُرغما!
ضحكت ضحكة خافتة وهي تقول: إذن تريد أن أعود لك من أجل الطعام أيها المخادع!
ضحك قائلا: بالطبع وهل نسيتِ المثل الذي يقول: مفتاح الرجل بطنه؟
ضحكت مرة أخرى وهي تتناول أول لقمة من بين يديه، 
كان يٌطعمها بكفيه وهي تترجاه أن يتوقف قليلا لتأخذ أنفاسها، لكنه يرفض بحزم ويُرغمها على المتابعة.
فرحت كثيرا لعودة طارق لها، ولأول مرة منذ إفاقتها من الغيبوبة تشعر بفرحة خفية تجتاح قلبها الصغير
 وهي تتأمل طارق بحب عميق وتدعو الله في سرّها أن يهديها ويصبّرها على فقدان بهاء.. 
ويحفظ لها طارق من كل سوء، ويعوضهما عن صبرهما خيرا.

_

 بعد سنة كاملة

ابتسم صادق لابنتيه في توتر وهو يقول لهما بحرص:
 انتبها فأنتما ستخدمانها بحذر، إنها متعبة ولن تستطيع أن تقوم من فراشها قبل شهرين قادمين!
 ها.. يا ورد ورقية، لا أوصيكما عليها.
ثم نظر إلى زوجته موصّيا:
 وأنتِ أيضا يا حنان، اهتمي بها وانصحي بناتك بكيفية الاعتناء بها فهما قليلات الخبرة في هذا الموضوع!
أومأت حنان برأسها موافقة وهي تقول:
 اطمئن، سأعلمهن كيفية العناية بها وبـمولودها الجديد!
ثم ركبا في السيارة وانطلقا إلى المستشفى بسرعة، وصلا أخيرا، ثم دخلا إلى غرفة على إحدى زوايا الممر، 
ابتسم صادق بفرحة حقيقية وهو يرى طارق جالسا على إحدى الأرائك الصغيرة التي تكفي شخصا واحدا، 
وفي حجره شيء ملفوف بقماش أبيض، وطارق يهمس له ببعض الكلام وبمجرد أن رآهما، رفع بصره مرّحبا بهما، 
وعلى شفتيه ابتسامة واسعة جميلة.

 جلس صادق على أريكة مقابلة في حين دخلت زوجته وابنتاه إلى خلف ستارة موضوعة في الغرفة،
كان خلفها سرير صغير تنام عليه غدير وعلى وجهها إرهاق كبير، أما عن طارق فقد قال لصادق هامسا:
 اعذرني لأنني لم أقف للترحيب بك فكما تعلم في حِجري يحيى الصغير!
ابتسم صادق وهو يرى ملامح الإرهاق والتعب الواضحين على وجهه بشدة، ثم قال:
 لا عليك فأنا أعلم ظروفك، لهذا أحضرت زوجتي وابنتي لكي تقوما بالواجب وترتاح أنت قليلا.
وابتهج كثيرا وهو ينظر إلى وجه المولود الصغير يحيى، ثم يُمسك بيديه الرقيقتين وهو يشعر بقلبه يتراقص من الفرحة، 
كان يحيى ملفوفا في أغطية بيضاء لا تُظهر إلا وجهه الصغير النائم بعُمق ويديه الصغيرتين جدا.
ابتسم طارق ابتسامة شاحبة ثم قال له بخفوت: صادق.. احمِله عنّي..
نظر له صادق فوجد عيناه نصف مغلقتين وابتسامة خافتة ناعسة على وجهه، 
أخذ يحيى من حجره برفق وحرص شديدين ولمّا استقر فوق يديه رفع وجهه وقال له عاقدا حاجبيه: 
تبدو مُتعبا بشدة! أخبرني.. منذ كم يومٍ لم تنم؟
ضحك طارق ضحكة متعبة، ثم قال بصوت ناعس:
 منذ أنْ ولدت غدير لي هذا الصغير! إنني أكاد أفقد وعيي الآن!
شهق صادق بخفوت ثم قال بعصبية: 
منذ أربع أيام؟ أنت أيها الوغد! ألم أقل لك في أول يوم منذ ولدت غدير أن تبقى ابنتاي لخدمتها 
ورفضت بذلك رفضا شديدا وقلت: أستطيع أن أخدم غدير وأخدم الصغير جيدا!
أسند طارق رأسه إلى ظهر الأريكة ثم أغمض عينه قائلا بصوت يبدو كالهمس الخافت: 
اتصلت بك هذه المرة لأنني خشيت أن أنام وأنا أحمل الصغير.. لا أدري كيف أشكرك يا صادق.
قال صادق بعصبية وحُنق: لا تشكرني بل أنا الذي أريد ضربك على إهمالك في نفسك!

ولكن طارق لم يرد عليه، فقد نام على الفور منذ أغمض عينه، أو لنقل إنه فقد وعيه بالفعل!
تنهد صادق حين عرف أنه نام، فغطّاه بغطاء رقيق، ثم همس قائلا: ورْد!
أقبلتْ ورد على الفور من خلف الستار ثم ابتسمت بفرحة حين وجدت والدها يُسلّمها الصغير وهو يقول بخفوت كي لا يُزعج طارق:
 اعتني بـيحيى جيدا! علي أن أذهب إلى المنزل لإحضار بعض من ملابسي لطارق، وبعض الطعام والحاجيات الأخرى..
 أسرعي إلى والدتك واسأليها عما تحتاجه غدير.
مشت ورد ببطء لتنفذ ما قاله والدها وهي لا تصدق أنها تحمل مولودا صغيرا بين يديها،
 قبلته بهدوء لتدخل إلى الستار وتجد غدير قد استيقظت والإرهاق بادٍ على وجهها، ابتسمت حال رؤيتها بحرج ثم همست:
 ولدك يحيى جميل جدا. الحمد لله على سلامتك يا خالة غدير!
ابتسمت غدير ابتسامة ناعمة مُرهقة ثم قالت:
 سلّمك الله! إنه يشبه والده على أية حال! كما أن هنالك ملامح كثيرة منه في بهاء.

بدأ الصغير يستيقظ وهو يُصدر أصواتًا جميلة وآهات طفولية رائعة، جعلت غدير تضحك بسعادة وهي تقول:
 لقد استيقظ هذا المزعج، من فضلكِ يا رقية ساعديني على الجلوس لأرضعه!
نفذت رقية كلامها بينما هي ظلت ترضعه وحنان _زوجة صادق _ تًسدي إليها نصائحها الأموية بمناسبة خبرتها الكبيرة..
كتبت حنان قائمة بما تحتاجه غدير وسلّمتها لورد قائلة:
 أعطِ هذا لأبيك واذهبي معه إلى المتجر لتُشرفي بنفسك على شراء هذه الحاجيات.
أخذت الفتاة الورقة ومضت بينما غدير تقول في امتنان بصوت خافت:
 لا أدري كيف أشكركم! ولكن جزاكم الله خيرا.. وأكرمكم بفضله.. في الحقيقة أنا لا أحتاج كل تلك الأشياء!
ابتسمت حنان بعطف قائلة: 
جزانا وإياك، نحن لم نفعل شيئا لكِ أكثر من الواجب، بل وكان علينا القدوم منذ أول البارحة!
قالت غدير: في الحقيقة لقد جاء إلي البارحة خديجة أم عثمان مع زوجها لزيارتنا، وظل عثمان يضحك بشدة مع هذا الصغير،
 وقد فرح به كثيرا، وقبل أمس جاءت أختي علياء مع أمي وساعداني في العناية بيحيى،
 غير أن طارق قد أخذ خبرة كافية في العناية بالأطفال وراح يغير له ملابسه وينظفه!
ثم ضحكت بخفّة وهي تُعيد النظر إلى يحيى النائم في حِجرها، ضحكت حنان أيضا مع رقية، بينما راحت غدير تتذكر ما جرى،
 فبعد وفاة بهاء بشهرين، أجرت غدير تلك العملية الخطرة رغم عدم تقبل طارق، ونجحت العملية،
 ورّزقت طفلا صغيرا، ومنذ أربع أيام فقط ولدته بصعوبة شديدة، وتذكرت نصائح الطبيب لها بأنها لن تُخرج إلا بعد يومين آخرين، أي أنها ستٌكمل أسبوعا، فقد حصل لها نزيف في اليوم الأول، وستجلس كل هذا الوقت منعا لحصول أي مضاعفات! 

وحين يأتي اليوم السابع ستعود لمنزلها مع طارق ليجهزا عقيقة لهذا الصبي شكرا لله على رزقه.
قالت حنان وهي تُمسك بعض الملاءات المتسخة وتقول:
 سأذهب إلى المسئولات عن التنظيف لتنظيف هذه الملاءات وبعدها نأتي لهذه الغرفة.. هيا يا رقية.
قالت غدير بسرعة: لا حاجة لأن تتعبي نفسك يا حنان، سيذهب طارق بنفسه لهذه المهمة!
ابتسمت رقية قائلة: عمّي نام جالسا من شدة تعبه، أرجوكِ دعينا نخدمك قليلا فلطالما خدمتِ والدتي كثيرا.
لم تدر غدير ماذا تقول وهي تشعر بالحرج والخجل، أمسكت الستارة وأبعدتها قليلا فرأت طارق نائما جالسًا على الأريكة،
 ابتسمت شفقة عليه ثم أعادت الستارة إلى مكانها وقالت: أنا ممتنة لكم حقا.

انصرفت حنان ورقية سريعا لكيلا تُحرجانها أكثر وحتى يتركانها تنام بجانب صغيرها، ولكنها ظلت جالسة تتأمله في حب كبير!
وجدت صغيرها يفتح عينيه الواسعتين وينظر لها بتعجب واستنكار، ثم يرفع حاجبيه وكأنه مندهش من شيء ما، 
أطلقت ضحكة صغيرة وهي تهمس: ما بك يا صغيري ما كل هذا الاستهجان من عينيك؟
حرك يديه وراح يدور بنظره في أرجاء الغرفة ويؤدي حركات طفولية أسعدت غدير وجعلتها تزيد ضحكا،
 لقد امتن الله عليها وعوّضها عن ابنها بهاء.
ابتسمت في حنان ثم قربّت فمها من وجهه قائلة: ما أشبهك كثيرا بـ بهاء يا صغيري!
_

 بعد إحدى عشر عامًا 

استمع المصلّون إلى هذا الصوت النديّ الرقيق وهو يتلو سورة آل عمران مسترسلا بطيئا 
جعل المصلّين يقفون في صلاتهم بخشوع وقد انتقلت أرواحهم إلى عالم إيماني مُزهر بالجمال.
وبعد الصلاة بدأ الناس بالخروج رويدا رويدا حتى خلا المسجد إلا من المصلين الذين جلسوا للنافلة أو لقراءة القرآن
 أو لإدراك ما فاتهم من صلاة الجماعة.
وفي مقدمة المسجد جلس رجل في أواخر العشرينات مُزهر الوجه،
 له بشرة بيضاء مُشرقة بنور القرآن، له عينين سوداويتين نقيتين، ورموش طويلة كحيلة،
 مع لحية وقورة سوداء قصيرة تجعل وجهه أكثر جمالا وهيبة.
استدار هذا الرجل إلى الخلف فوجد ابنيه الصغيرين، حفصُ لديه سبع سنوات، له وجه مشرق كأبيه وعينان ضاحكتان،
 وابنته الثانية زينب لديها أربع سنوات، لها وجه بدّري جميل، وتصرفات مضحكة طفولية.
تذمر حفص قائلا: أبي إن زينب لم تدعني أصلّي جيدا!
ضحك الإمام وهو يقوم واقفا ويُمسك بيديهما قائلا: يا بني إنها أختك الصغرى تحمّلها!
ثم شدّت زينب يده فالتفت لها قائلا: ماذا؟ قالت بغضب: احملني!
ابتسم على غضبها الذي ليس له مبرر إطلاقا، ولكنه حملها ببساطة وسط دهشة حفص وغيرته!

"يا إمام.. يا إمام"
كان هذا النداء يأتي من خلفه، استدار باهتمام إلى الشاب الذي كان يُسمّع لديه القرآن،
 كان له شعر مجعد ووجه أبيض مائل للحمرة وعلى خدّيه حبّ الشباب وبعض البثور الحمراء، وله عينان خضراوين..
 قال هذا الشاب متبسما بحرج: أعتذر لأنني سأعطلك!
ابتسم الإمام بعطف: لا بأس يا بني، قُل ما بدا لك يا عبد البارئ!
قال عبد البارئ بارتباك: هي كانت مسألة طلبت مني أمي أن أسألك إياها!
قال الإمام: تفضل.
قال الشاب مسألته ونظرات الإمام تُطمئنه وتسكن اضطرابه وحرَجه، حتى أجاب عنها ببساطة تدل على علمه وفهمه،
 انصرف الشاب وهو يشكر الإمام ولينه وحُسن أخلاقه.
أما الإمام فقد أخذ طفليه وعاد إلى منزله، ألقى السلام وجلس مع زوجته قليلا للغداء ونام ساعة قبل صلاة العصر،
 كان قد أخبر أهله أنهم سيذهبون اليوم لزيارة الأستاذ طارق.
وفي بيت طارق، فتح صبي يبلغ الحادية عشر من عمره الباب،
 فرح الإمام لدى رؤيته هذا الصبي بشدة وكأنه رأى أحد أبنائه أو أصدقائه الأعزاء..
 وترك زينب التي يحملها في يديه، ونزل يسلّم على الصبي قائلا بسرور: السلام عليك يا يحيى.. كيف حالك؟
ابتسم يحيى بهدوء وهو يُبادله السلام والتحيات، نعم، يحيى هو أخو بهاء نفسه!
كان يحيى على قدر كبير من الفهم والفطنة الباديين على وجهه، وهدوء وابتسامة شجية،
 رغم أنه ما زال صغيرا لكنه كان لطيفا وديعا ذكيا!
وجاء طارق بعده، كان لا يزال على نفس سجيته وصورته إلا أن الشيب بدأ يغزو شعره الأسود الفاحم فلم يزده هذا الشيب إلا وقارا!

هتف طارق بسعادة: مرحبا بك يا عثمان في منزلك! أهلا أهلا.
وتعانقا معا في بهجة، دخلت ورد_التي ما كانت إلا زوجة عثمان_ إلى الداخل 
لتلتقي بغدير التي مازلت جميلة كما هي ولم يؤثر فيها الزمن تأثيرا كبيرا، ثم أخذ طارق الصغيرة زينب قائلا:
 ما شاء الله تبارك الله! إنها تزداد جمالا كل يوم، نسيت أن أقول إنها محجوزة ليحيى!
ضحك عثمان ضحكة خفيفة ثم قال ليحيى: ها.. ما رأيك يا يحيى؟
وأشار إلى زينب التي كانت مستقرة على ذراعي طارق، فقال يحيى مُستنكرا: أنا!؟ لا بالطبع، أريد واحدة عاقلة!
ضربه عثمان على رأسه بلطف وهو يقول متصنعا الغضب: أتعني أن عزيزتي زينب ليست عاقلة؟
ضحك يحيى قائلا وعيناه تلمعان: بالتأكيد!
ثم نظر إلى زينب التي علتها نظرات التعجب والاستغراب وقال لها مازحا: أنت مجنونة يا زينب!
غضبت زينب غضبا طفوليًّا وهي تصيح: لا.. لست مجنونة، أنت المجنون.. أبي، انظر إليه، يقول مجنونة.
ضحك عثمان وهو يأخذها من يدي طارق ويهدئها، بينما امتدت يد طارق إلى أذن يحيى لتشدها ويحيى يقول بألم: 
لا.. لا إلا أذني.. لقد طالت كثيرا يا أبي من شدك لها!
ضحك طارق بشدة وترك أذن يحيى فتابع يحيى قائلا وهو ينظر للسقف ويتمثل وكأنه مسكين: 
أتساءل إذا كان أخي بهاء يتعذب مثلي هكذا بسبب شد الأذن!
ضحك عثمان هذه المرة بشدة وهو يتذكر تلك الليلة التي عاد فيها إلى بهاء بعد مرضه فوجد أذنيه الاثنتين محمرتين من أثر الشد والعقاب!

ظل عثمان مع طارق، 
والأول يحكي له مغامراته في كلّية الشريعة وبعض المواقف التي حصلت له في عمله كونه إمامًا في المسجد ومعلم قرآن للصغار، 
وبدورة العقيدة التي سيحضرها بعد أسبوعين، وحكى له أيضا عن بدء إجراءات دخول حفص للمدرسة الابتدائية..
 وقد كان عثمان سعيدا بتلك النشاطات التي في حياته.
أما طارق فقد كان ولا يزال تاجرا متميزا، تعددت شركاته وكثرت أرباحه لكنه ظل على وعده بالتصدق للفقراء والمساكين وببذل الأموال على دور رعاية العجائز والأيتام..
 وكان من حين لآخر يتصدق بنية الأجر لبهاء.
وكان يجعل جزءا كبيرا من وقته في القراءة والعلم وقد أنشأ مكتبة كبيرة في منزله وساعد يحيى على القراءة منها وشجعه على التعلم.

حتى انتهت الزيارة وودعا بعضهما ثم انصرف عثمان، وفي المساء بعد العشاء، 
كان عثمان يشجع طفليه للنوم باكرا، حتى أنه نام في وسطهما، وحفص على يمينه وزينب على شماله،
 كان يقرأ لهما القرآن بصوته العذب الهادئ ليساعدهما على النوم.
وبعد أن اعتقد أنهما ناما، جاء ليقوم من السرير وإذا بحفص يقول بخفوت: أبي..
استغرب عثمان وابتسم في وجهه: ماذا هناك يا حفص؟
قال حفص بحيرة: اليوم وجدت غرفة في بيت جدّي طارق (وقد عوّدهما عثمان على قول جدي لطارق)..
فقال عثمان: ماذا بها تلك الغرفة؟
هزّ حفص كتفيه وهو يقوم: ليس بها شيء، ولكن بابها رمادي و.
اتسعت عينا عثمان دهشة وقد عرف لأي غرفة تلك، واستمع لحفص وهو يكمل بحيرة: 
ووجدت كلمة كُتبت عليها بهابيهو!
ثم قال بعينين صغيرتين راجيتين:
 أبي.. أنا لم أفهم هذه الكلمة! هل بإمكانك أن تشرحها لي؟
شعر عثمان بضحكة كبيرة في أعماقه، ظهرت على هيئة ابتسامة خفيفة على شفاهه،
 جعلته يعود إلى الفراش ويضع حفص بين أحضانه قائلا بابتسامة عذبة:
 بالتأكيد يا صغيري. سأشرحها لك، وسأحكي لك أيضا، ما هي قصة.. بهابيهو!

 .

 .

 .

 .

تمّت بحمد الله

_

شكرًا لقرائتكم روايتي 💗
وأتمنى أن تكتبوا رأيكم فيها في التعليقات
أتقبل النقد البناء بصدر رحب^^


ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم