أحدث الموضوعات

رواية بهابيهو (الجزء الثالث عشر)


رواية بهابيهو

رواية بهابيهو (الجزء الثالث عشر)

رواية بهابيهو (الجزء الثالث عشر)


(13)


أغمض بهاء عينيه وهو يسترخي إلى ظهر كرسيه ويُنصت إلى ترتيل عثمان الخاشع العذب.
كانا أمام النيل، لقد صلّيا المغرب، واتجها إلى النهر،
 وضعا كرسيين وجلسا عليه، وها هو عثمان يسّمع لبهاء ما راجعه اليوم من القرآن..
انتقل إلى سورة الطور، وبدأ يتلوها بترتيل جميل آخر.
"أهي.. ويل يومئذ للمكذبين؟ أم فويل؟"
انتبه بهاء قائلا: ماذا؟
قال عثمان: ما بك قد سرحت؟  أهي ويل بدون الفاء أم بها؟
 بدون أن ينظر بهاء إلى المصحف ردّ: إنها: فويل.
ثم أغمض عينيه واسترخى مرة أخرى!
أكمل عثمان حتى أنهى السورة، وسكت هو وبهاء، سأله بهاء في شرود: 
عثمان.. هل يعرف والداك بهذا؟
قال عثمان: لا.

لم ينتظر عثمان من بهاء أن يسأله عن السبب، بل أفصح مباشرة وهو يقول في حزن:
 منذ موت أخي عامر بغيبوبة سكر من ثلاث سنوات ووالدي عصبي بكل شيء يخصني أنا بالذات،
 لقد توفي أخي أثناء اجتماعه بأصدقائه، كانوا في احتفال صغير بمناسبة نجاحهم جميعا، 
أكل كثيرا من الحلويات فارتفع لديه ووقع في غيبوبة شديدة، أصدقائه ظنّوه أغمي عليه فقط!
فتهاونوا في إيصاله إلى المستشفى، وأبلغوني بذلك، فذهبتُ إلى المشفى سريعا دون أن أخبر أبي، 
وانهال علي الأطباء بالخبر الصاعق، عامر مات.. لفظ أنفاسه الأخيرة بسبب ارتفاع السكر!

كان بهاء يعرف ذلك مُسبقا فقد تعامل مع عامر كثيرا، ولكنه أفسح المجال لـ عثمان وهو يقول بألم:
منذ ذاك الوقت، وأبي قد فقد أحد ابنيه، وبقي لديه ولد واحد وهو أنا، كان مرض عامر وراثيا،
 وللأسف ظهر فجأة، ولم نتمكن من إنقاذه! 
أصبح والدي يضع عينه علي في كل يوم، لا يطيق أن أخبأ عنه أي خبر ولو كان من خصوصياتي، 
صار يغضب كلما تأخرت أو فعلت شيئا خارجا عن علمه، 
يريدني مثاليا وكاملا في كل شيء فأنا ابنه الوحيد الباقي، هذا سر عصبيته الدائمة وصراخه علي.

أكمل عثمان وهو يدفن وجهه بين كفيه محاولا السيطرة على مشاعره المنهارة: 
ولهذا، لا أدري ماذا قد يحصل لأبي حال معرفته بأن ابنه الأخير والوحيد أصيب بالسكر هو أيضا!
 أي خيبة أمل ستصيبه وأي انهيار سيصيب أمي؟ 
إنهما يعتبرانني أملهما الوحيد.. يريانني بصحة ونشاط دائما ويتمنيان لو أحقق أعلى الدرجات،
 ثم أكبر وأنجب ليريا أحفادي بين أيديهما، إنهما يتوقعان مني أن أعوضهما عن ابنهما المتوفى أخي عامر رحمه الله!
ثم قال بصوت متهدّج:
 لا أريد له أن يعرف أبدا، ولا أمي، أفضّل الموت على أن أرى عيناهما حزينتين وخائبتين بسببي، بهاء. 
ساعدني! لقد كنتُ أكتم هذا في صدري، والآن بعد أن عرفت؟ أجبني ماذا أفعل؟

شعر بهاء بتأنيب الضمير وقد شعر بأن عثمان يتعذب فعلا بسبب ذلك، 
أي خيبة أمل وأي حزن وأي صدمة ستحصل لـ عمير إذا عرف أن ابنه الثاني، سنده وفخره، قد تمكن منه المرض أيضا؟

ربت على كتفيه قائلا في إشفاق: إنه ابتلاء يا عزيزي.. أبشر، فذنوبك ستُمحى، احمد الله!

حمد الله بصوت خافت، ثم نظر إلى بهاء بعينين متوسلتين قائلا:
 بهاء.. إذا كنت مكاني.. ماذا ستفعل؟ أخشى ثورة أبي علي إذا عرف أنني أخفيت هذا عنه.
قال بهاء بحزم: 
إذا كنت مكانك فلن أخبرهما أبدا، في نفس الوقت لن أعرّض نفسي للخطر،
 وسأهتم بصحتي، وأحرص عليها كل الحرص، وأفعل كل ما يُمليه علي ضميري من العلاج،
 دون أن أجعل والديّ فاقدين أملهما في.. أفهمت يا عثمان؟ كُن قويا!
وترددت تلك الكلمة في عقل عثمان وهو يسترد شيئا من تماسكه..
كُن قويا.. كُن قويا
_

يوم الثلاثاء:
التفت المصلّون يمينا مغمغمين: السلام عليكم ورحمة الله.
ثم شمالا: السلام عليكم ورحمة الله..
لبثوا قليلا حتى بدأوا الخروج من المسجد أفواجا أفواجا بعد صلاة العصر، 
ومن بين تلك الجموع، وقف عثمان ينظر إلى الداخل وعيناه تدوران للبحث عن بهاء،
 ووجده سريعا مع إمام المسجد الشيخ حازم، يتكلم معه في إحدى المسائل، اقترب منهما مبتسما وسلّم على الإمام،
 كانا قد أنهيا الحديث، ولهذا فقد صافحه الشيخ حازم ببشاشة وسرور، وقال بوقار مبتهج: 
ما شاء الله والله لم أتوقع أن يكون هناك شاب في مثل سنّك له سعة اطّلاعك تلك، 
أنصحك بشدة أن تُكمل نُبوغك هذا بالتعلم.
هزّ بهاء رأسه إيجًابا وهو يبتسم وخدّاه حمراويْين خجلًا، والتفت الإمام إلى عثمان أيضًا ليقول:
 وكذلك عثمان، أكمل تعلمك في مجال القراءات، والله إني أرى لك مستقبلا مُشرقًا.
ثم أمسك يديهما ووضعهما على بعض قائلا في لطف:
 حقّا الحمد لله الذي جعلكما أخويْن في الله، حافظا على أخوّتكما، سعيد جدا بكما.
ابتسم بهاء وعثمان والأول يقول بامتنان:
 بل نحن المسروران هنا يا شيخ حازم، الحمد لله أن لدينا معلّم حسن الخلق مثلك.

تواضع الشيخ حازم عن قولهما ببضع كلمات ألحقها بدعوات طيبة خرجت من قلبه المحب لهما المشفق عليهما،
 خرجا من المسجد واتجها إلى نادٍ رياضي غالبا ما يذهبان إليه في هذا الوقت، في أثناء ذلك،
 وهما يمشيان بترقب، نظر عثمان إلى صاحبه وقال: بهاء، أحقّا، أنت لم تعرف أن لدي مرض السكر إلا يوم السبت؟
أجاب بهاء: نعم.
قال عثمان: ولكن.. ليس شرطا أن يكون لدي سكر إذا أُغمي علي.
وافقه بهاء: 
طبعا، فانخفاض السكر ربما يحصل للأشخاص العاديين، لكنه من المستحيل أن يحصل لأحد مُغرم بالحلوى مثلك يا عثمان، 
فأنت لن تترك الحلوى وتبتعد عنها إلا لو كنت تحذر منها بشدة لأنها تسبب لك خطرًا ما، 
كما أنني تأكدّت من تحليلي هذا حين رأيت زجاجة الأنسولين التي سقطت من جيبك، 
فأدركت أن انخفاض السكر المفاجئ كان من آثار تناول جرعتها دون تناول شيء بعدها.

ثم ابتسم ابتسامة واسع لعثمان المنذهل من تحليله، فنظر بهاء إلى الأمام مُكملا: 
وكذلك أعراض السكر كانت واضحة عليك، تتعرق كثيرا، أعصابك هائجة مؤخرا، تعطش بشدة..
 وردة فعلك وقتها أثبتت لي ذلك؛ لو كنت لا تعاني من السكر لكنت أنكرت بعينيك، لكنّك أنكرت ذلك بفمك فقط.. 
ففهمت كل شيء بعد الربط بين الخيوط!
قال عثمان وقد فهم: آه.. نعم.
التفت له بهاء فجأة: لماذا تسأل؟
تلعثم عثمان وهو يقول: سؤال عادي!
ابتسم بهاء في داخله، فتلعثمه هذا أكبر دليل أنه يُخفي شيئا، قال شامتا: 
أتعلم؟ والدك معه كل الحق إذا ضربك على كذبك!
التفت له عثمان مستغربا، فقال بهاء: كذبك يكون واضحا بشدة! تتلعثم وتضطرب!
اتسعت عينا عثمان دهشة واستنكارا: أتعني أنني أكذب؟
ضحك بهاء:
 لا، لستَ تكذب، ولكنك تُخفي شيئا بالتأكيد؛ يبدو هذا من ملامحك.
عقد عثمان حاجبيه منزعجا: 
لمَ تحب التحديق بملامح الناس يا بهاء؟ بينما أنا لو حدقت في عينك لن أفهم شيئا.
ضحك بهاء مرة أخرى وهو يقول: 
لا بأس يا صديقي لكلًّ منا قدرات.. 
كما أن التحديق بملامح الناس يجعلني أشعر أنني محلل نفسي إذ أنني أفهم مشاعرهم، إذن.. هل ستخبرني ما تُخفيه؟
تنهد عثمان قائلا: حسنا، سأقول.

ابتسم بهاء مترقبا ومُنصتا، فأضاف عثمان:
 قبل أسبوعين، عندما شعرتُ بتلك الأعراض لم يكن في بالي مرض السكر نهائيًّا،
لما اشتد علي الصداع والحرارة حتى شعرتُ أنني سأقع على وجهي، ذهبت إلى أقرب طبيب حينئذ، 
وأعطاني إبرة أنسولين، وانتظر حتى تحسنتُ قليلا، ثم سألني عن عمري.
 وقال لي أنه يجب الاتصال بولي أمري كي يتكلم معه عن حالتي فأنا ذاك الوقت لم أكن واعيا!
 اضطربت كثيرا ولم أدر ما أفعل، فقد كنت متفاجئًا من مرضي وعند ذلك خطرت لي فكرة،
 اتصلت بأبيك طارق وكلمته على أنه أبي، وهو تفهم الأمر وكلم الطبيب أيضا!
 ولم يكفه ذلك بل جاء إلى العيادة وأخذني بسيارته، وأخفى الأمر حتى عليك! أفهمتني الآن؟
قال بهاء مندهشا:
 حقا، إذن أبي كان يعرف ذلك؟
لا عجب فبهاء كان يلاحظ منذ زمن طويل أن والده وعثمان كانا أشبه بصديقين منهما إلى أب وصديق ابنه!
ابتسم عثمان: 
نعم، وفي الحقيقة احترمته جدا وكبرتْ مكانته عندي، لقد أخفى الأمر، 
وراعى حالتي، وخشيت أن ينظر لي نظرات شفقة أو رعاية لكنه عاملني كرجل يُعتمد عليه، لقد أعاد لي ثقتي بنفسي.
ابتسم بهاء متأثرا: آه يا أبي كم أنت رائع!
هزّ عثمان كتفيه وقال ببساطة: 
هذا كل شيء، كنت أريد التأكد من أن أباك لم يخبرك! وأنك عرفت هذا بنفسك.
ضحك بهاء: سأستجوب أبي عند رجوعي كما تفعل أمي!
بدأ عثمان الضحك. 

وتوقف فجأة عندما سمع صوتا من خلفه:
"أنتما بهاء وعثمان"
التفتا في وقت واحد مستغربان، وجدا رجلا بقامة ممشوقة، ووجه شبابي مرح،
 يبدو أنه في الثلاثينيات، عينيه سوداء وله شعر مجعد بنفس اللون، وجهه بيضاوي ببشرة بيضاء.
نظرا إلى بعضهما في غرابة فلم يسبق لأحدهما رؤية هذا الوجه وهذا المنظر الأنيق، ثم قال بهاء: نعم يا سيد!
ابتسم ابتسامة مصطنعة قائلا: أنت بهاء أليس كذلك؟
قال عثمان: ماذا تريد يا حضرة؟
قال ناصر في تهذيب: ناصر.. محقق صحفي.
بمجرد أن سمعا ذلك، حتى عبسا في وجهه وقد عرفا مُراده، والتفتا وقد قال عثمان:
 نحن نعتذر فلا وقت لدينا للصحافة، وليس لدينا أية معلومات!
وافقه بهاء: نعم ولدينا موعد في النادي الآن!
والتفت بحدّة عندما شعر بيد صلبة تُمسك ذراعه، قبضته محُكمة قوية، نظر له بهاء ببرود هادئ، وناصر يقول:
انتظرا قليلا، أريد الحديث معكما، أقسم لكما أن الموضوع لا علاقة له بالصحافة بتاتا!
وتابع عندما رأى ترددهما:
صدقاني، وإذا لم يعجبكما كلامي، فلكما الحق في الانصراف فورا! ولكن اسمعاني أولا!

وجدهما على هدوئهما وبهاء يقول: 
المشكلة أن وقتنا غالٍ ونحن لا نريد صرفه في حديث ليس بنافع!
قبض ناصر على ذراع بهاء أكثر حتى أن ذلك آلمه وقال محاولا أن يُخفي ضيقه بابتسامة مهذبة مجاملة:
 قلتُ لكما الحديث مهم جدا، إنه بخصوصك يا بهاء!
قال بهاء بعد صمت: موافق!
نظر عثمان إلى بهاء، كان في عينيه الرماديتين حدة وعنف، وهدوء ظاهري،
ولكنه في الحقيقة بركان يغلي؛ حتى أن جسمه بدأ يتعرق.
 نظر بهاء بحدّة إلى يد ناصر الممسكة بذراعه، واستدرك بهدوء: ولكن اترك ذراعي أولا!
ابتسم ناصر وهو ينفذ ذلك، ويقول: حسنا إذن، أين سنتحدث؟ لا يمكن هنا، فنحن في طريق عام!
فكّر بهاء: لنجلس على جانب الطريق، على هاذين الكرسيين المتقابلين.
اتجه له ناصر من فوره وجلس على كرسي، وتبعه عثمان وبهاء وجلسا على الكرسي المقابل، بجانب بعضهما، 
وقال عثمان في عدوانية: هيا! تكلّم، وبكل سرور سننصرف إذا لم يعجبني كلامك!
ابتسم ناصر على همجيته، ثم قال:
 حسنا، أنتما تعرفان بالطبع قضية بهابيهو المشهورة؟
كانا على أعصابهما وهو بابتسامته المستفزة يقول:
 الحقيقة، القليل من يدقق في الشارع من الناس العوام في وجه شاب من الثانوية هو نفسه بهابيهو!
وقف عثمان منتفضا بعصبية وقال:
 إذن تريد رمي التهم! واستخراج المعلومات منا بطريقة الصحفيين المستفزة. سأقوم، بهاء هيا!
وجده لا يقوم واقفا وإنما جالسٌ بكل اتزان، وقال له: 
عثمان، اجلس من فضلك! الرجل لم يُنه كلامه بعدُ.
همس باستنكار: بهاء!
قال له بهاء دون أن ينظر له: اجلس واهدأ!

زفر بضيق وهو يَضطر للجلوس مُختنقا، ونظر مكفهرا إلى ناصر الذي قال باحترام:
 أشكرك لجلوسك! ولكن بهاء شخص عاقل.. لن يقوم دون أن يفكر بعقله في حديثي.
قال بهاء ببرود: أكمل!
أكمل ناصر:
 أنت متهم بتهمة بهابيهو، وطبعا لا أحد يدقق النظر في وجوه الناس وإلا لكنتَ الآن في قبضة الشرطة، 
ولكن الذي لا يعرفه أحد أنك لست بهابيهو الذي يخرج حاليا، فأنت بهابيهو آخر، بهابيهو شريف.
قاطعه عثمان: لحظة.. كيف عرفت هذا؟!
قال ناصر بعينين عميقتين: 
الذي يدقق في المسألة يعرف كل شيء!
 وفي الفيديوهات أكثر من دليل على براءة بهاء مما يفعله بهابيهو الحالي من سرقة ونهب وغير ذلك،
 وبما أنني شرطي سابق ولي أكثر من تجربة مع المجرمين،
 واستقلت لمرض حركي أصابني منعني من متابعة عملي كشرطي، فأنا سأساعدك يا بهاء..
لأنني أعرفك جيدا، وأعرف والدك طارق، إنه أب محترم وشخص رائع الأخلاق،
 وأنت مثله ابن عاقل ومتزن، ولن أصدق أبدا أنك بهابيهو الحقير!
 لقد توفرت لدي بعض المعلومات التي أريد بها مساعدتكما في القبض عليه، وأنت خصوصا يا بهاء، 
أريد أن أبذل كل جهدي في إرشادك إلى الطريق الصحيح للقبض عليه.

نظرا إليه بدهشة، شرطي سابق، ولهذا كانت قبضته مؤلمة لبهاء، 
ولكن كيف يعرف والد طارق؟ على بهاء أن يسأله عندما يعود.
ولأول مرة شعر عثمان بأهمية ما يقوله هذا الرجل، فانتبه له بتركيز، ونظر له بهاء بجدّية وهو يُكمل:
الحقيقة أن قسم الشرطة تلقى رسالة من بهابيهو اليوم، تهديد باليوم الذي سيظهر فيه والجوهرة التي سيسرقها، 
هذه المرة، الجوهرة غالية جدا، وأظن أنه بنفسيته المريضة يعتقد أنه سيختم نجاحه وشهرته بسرقة هذه الجوهرة،
 والقبض على بهاء بتهمة بهابيهو، وبعدها ستنتهي حكاية بهابيهو،
 الحقير سيهرب ويجعل بهاء يدفع الثمن بدلا عنه في السجن!
أنا لا أدري ماهية خطته، ولكن شئت أم أبيت يا بهاء، يجب عليك أن تفعل شيئا لأجل هذا! 
بهابيهو سيجرّك جرا للوقوع في فخه! ولا يجب عليك المشاهدة بصمت كعادتك، عليك أن تفعل شيئا، أسمعت؟
 وأنا سأرشدك ببضع خطوات، 
وربما سترفض لو قلتُ لك أن خطتي هي أن ترتدي زيَّ بهابيهو مرة أخرى وتذهب إلى موقع الجوهرة لتستفز بهابيهو!
قال بهاء بعد أن استوعب: 
ومتى عمليته الأخيرة؟ ألم تظهر في الأخبار؟ وكيف عرفت أنت؟
قال ناصر مستعجلا وهو ينظر لساعته:
 هذه من المصادر السرية لدينا، ولا أستطيع إخباركم بها، ولكن ترقبا ذاك الموعد في أخبار الغد فقد تُنشر، 
المهم الآن لدي موعد مهم مع أحد المحققين، يجب أن أذهب!
أمسك عثمان يده هذه المرة وهو يقول بانزعاج:
 مهلا، تحمسنا بهذا الحديث وتترك الأسئلة معلّقة بأذهاننا! جاوب عليها أولا!
 أمرك غريب.. كيف تريد من بهاء أن يقع في نفس الفخ الذي وقع فيه قبل ذلك؟

ابتسم بتهذيب: 
أنا آسف حقا، توقعت أن الوقت سيكون كافيا فقد كنت أنتظركما حتى تخرجا من المسجد ووجدتكما بعد جهد جهيد.
قاموا واقفين وناصر يُكمل:
 لدي بعض الوقت الفارع بعد المغرب، ربما أحاول الاتصال عليك لإكمال الخطة.. ولشرحها بالتفصيل..
 ولكن أهم شيء.. هو..
انتبها له، وقال بعينين ثاقبتين بطمأنينة: 
أن تثقا بي.. هذا أهم شيء!
سأله بهاء: وما الضمان لثقتنا تلك؟
حرك ناصر كتفيه ببساطة:
 لا أدري.. الضمان من المفترض أن يكون لي، فأنتما المستفيدان مني ولست أنا؛
 فأنا أقدَّم لك خطة جيدة لأنه ليس هناك وقت للبحث والتخطيط، فعملية بهابيهو الأخيرة قريبة جدا، 
وسأمدُّك بكل المعلومات التي لدي، وأبذل ما أقدر عليه.. أليس هذا ضمانا كافيا لأستحق ثقتكما؟
تنهد بهاء وهو يمد يده ليصافحه متبسما: في الحقيقة أنا أشكرك كثيرا، ولكنني ما زلت مترددا في الثقة بك!
ابتسم ناصر وهو يشد على يده مصافحا: لا بأس فأنا أتوقع حذرك هذا، الحذر في مرحلتك هذه مهم جدا..
 والشك في كل الناس مطلوب حتى في أنا.. ولكنني أتمنى أن أنال ثقتك وتقديرك.
ثم صافح عثمان على عُجالة وانصرف على الفور.

راقباه بعينيهما حتى اختفى، ثم نظر عثمان إلى بهاء متسائلا: ما رأيك؟ هل يستحق ثقتنا؟
هزّ بهاء رأسه نافيا وهو يقول بهدوء: ليس الأمر بهذه السهولة، أحتاج أن أفكر قليلا!
ثم قال له: علينا أن نُسرع، لم يتبق سوى ساعة ونصف على المغرب، لن نجد وقتا كافيا للسباحة في النادي.
بدأ عثمان بالمشي بخطوات سريعة وإن كانت ليست ركضا،
 وبهاء يتبعه دون أن يُجاري سرعته، فذهنه مشغول بما حصل قبل قليل.
سأله عثمان في شرود: بهاء.. أتذكر عندما ذهبت إلى بيت مبارك.
قطع كلامه عندما شعر باصطدام خلفه، فالتفت ليجد بهاء قد اصطدم بعامود إنارة،
 نظر له بدهشة وهو يدّلك جبهته المحمّرة ويتأوه.
اقترب منه قائلا بمزاح: ألم تعد تستطيع الرؤية يا بهاء؟
قال بهاء وهو يُمسك ذراعه بضحكة خفيفة: 
كان ذهني مشغولا فلم أرَه في الوقت المناسب!
ابتسم عثمان ثم سأله في قلق: هل جرى لك شيء؟
قال بهاء بلهجة غريبة: لا!

ثم نظر له نظرة حادة، وعقد حاجبيه، ثم رفعهما وأمسك ذراعه وأشار إليها بصمت، 
ثم فتح أحد أزار قميصه وأغلقها مرة أخرى.. وهو يُشير إليه بإشارات من أصابعه، 
فتح عثمان فمه ليتكلم فوضع بهاء سبابته على فمه وهو يُشير له أي لا تتكلم! 
ثم أشار إلى خلفه بإبهامه ثم إلى أذنيه بسبابته!
توتر عثمان وقد عرف أن في الأمر شيئا، وراح يحاول التفكير.
بينما بهاء يقول في داخله برجاء: أتمنى أن تفهمني يا عثمان!
وعثمان يقول في داخله أيضا باضطراب: 
ماذا تريد يا بهاء.. ذراعك، وأزرار قميصك! والسكوت! 
ما الأمر؟ هل يجب على من يرافقك أن يكون شديد الذكاء حتى يفهمك؟
ثم سكت لوهلة وهو يتذكر منظر ناصر وهو يٌمسك ذراع بهاء، هل لهذا علاقة!؟

فجأة فتح فمه مندهشا، لقد فهم أخيرا، ظهرت على وجه بهاء ملامح الفرح.. 
أشار عثمان هو الآخر إلى أذنه، فأومأ بهاء برأسه مسرورا لفطنته!
وأشار إلى عثمان بالمشي، فقال عثمان: جيد أنك لم تتأذى..
ركضا بعدها إلى النادي فلم يعد في وسعهما أن يتأخرا أكثر، دخلا سريعا وغيرا ملابسهما ليسبحا،
 وأمام المسبح تنهد بهاء تنهيدة طويلة قائلا: كنت أخشى ألا تفهمني يا عثمان!
قال عثمان في تفكير عميق: ولكن لمَ يضع ناصر أداة تنصت على ذراعك؟ لمَ يفعل ذلك؟

التفت له بهاء: ألم تفهم هذا، إنه بهابيهو! هو نفسه..
 من الجيد أننا سنسبح لأنني سأخلع قميصي الذي ألصق به ذلك الوغد أداة تصنته!
نظر له عثمان بدهشة فأكمل:
 هل تظن أنه أمسك ذراعي بهذه الطريقة بدون سبب! لقد شعرت فورا بتلك الأداة التي ألصقها.. إنه ماكر ووغد.. 
مذ رأيته عرفت أنه جاء ليقول خطته الخبيثة، لقد شعرت بغليان في قلبي وأنا أرغم نفسي على الابتسام له ومصافحته.. أأأه!
قال عثمان عاقدا حاجبيه بانفعال: 
ولكن لماذا لم تُخبرني؟ الآن أين مكانه؟ لو أخبرتني حينئذ لقبضنا عليه وسلمناه للشرطة!
قال بهاء بغيظ:
 وكيف أخبرك يا ذكي وهو يراقب كل همسة وحركة بيننا؟ حتى أنه وضع أداة تصنت ليتأكد من سماعه لكل حرف أنطق به،
 إنه يظن أنني لا أعرف وجه بهابيهو.. 
ولكن تبّا له، هذه النقطة الوحيدة في صالحي لأعرف مكره وخداعه..
 كما أنك ستجده الآن في مكتبه الصحفي بالفعل، لم يكن يكذب علينا بشأن عمله فهو صحفي.

ثم قال باستخفاف: ثم.. بالله عليك، كيف ستقبض عليه بهذه السهولة؟ أتظن أن المسألة هي الاتصال بوالدك ثم..
قاطعه عثمان بعصبية: وكيف بالعادة نقبض عليه يا أخي؟ هل جرى شيء لعقلك بسبب اصطدامك في العامود؟
قال له بهاء منزعجا: ليس كذلك، وإنما ما هو الدليل الذي سيثبت إدانته بتهمة بهابيهو؟ 
هل نسيت؟ هل تظن أن أدلة اتهامه مُثبتة عليه؟ إذن أنا ما الذي أحاوله كل هذا الوقت؟

سمعا صوت أحد الفتيان: اقفزا سريعا قبل أن يُغلق المسبح عند المغرب.
قفزا إليه دون أن ينظرا، ظلّا قليلا حتى أذنت المغرب فارتدوا ملابسهم 
ولكن طبعا بهاء غيّر قميصه بحجة البلل وارتدى واحدا آخر.
وأثناء إعداد حقائبهما، رنّ هاتف بها، كان رقما غريبا،
 اتضح أنه ناصر بعد الرد عليه، أرعاه عثمان سمعه طول الوقت بتركيز شديد، وبهاء يفكر بعمق،
 ثم أغلق الهاتف، فقال عثمان:
 لقد سمعت خطته.. يا له من مسكين، يظن أننا لم نعرف حقيقته بعد!
ابتسم بهاء ولم يعلق، فتابع عثمان:
 بهاء.. دعنا ننفذ خطة أخرى أذكى منه ونخدعه بإيهامه أنك ستفعل ما يقول لك.
فقال بهاء بهدوء: 
ولكنني بالفعل سأنفذ خطته.. بحذافيرها!
نظر له عثمان بعدم استيعاب، ثم قال: 
نعم.. سنخدعه بذلك وفي الواقع سننفذ خطة أخرى تماما.
فأغمض بهاء عينيه قائلا: لا.. سأنفذ خطته! رغم أنني أعلم حقيقته!
عندئذ هتف عثمان: هل أنت مجنون؟  تعلمُ أنه وضع لك فخّا فتقع أنت فيه بكل سهولة؟ أي عقل تملك؟
قال بهاء: لستُ مجنونا، كما أنني سأتحاشى فخّه بلمسة بسيطة أُدخلها على الخطة.
أخبره بهاء بخطته الكاملة، ولكن عثمان زمجر باعتراض:
 بهاء خطتك هذه لا تروق لي إطلاقا! هل تريد الفشل؟ تريد الاعتماد على عدوّك في خطة القبض عليه؟ أي هراء هذا!
قال له بهاء بحسم: 
اهدأ يا عثمان وفكّر جيدا، لا حل لدينا سوى هذا! الوقت قصير وهذه آخر عملية له.
أمسك عثمان كتفي بهاء وهزّهما بعنف مغمغما: 
هل تدري أي حماقة تلك؟ بدل أن تحمد الله على أنك تعلم حقيقته، تنفذ كلامه بتصرف بسيط؟
 إذن ما الفرق بينك وبين من لا يعلم؟

وضع بهاء يديه على يدي عثمان قائلا بضيق: لا تنفعل علي بهذه الطريقة.
أشاح عثمان بوجهه في ضيق وهو يذكر الله في نفسه، بينما قام بهاء متضايقا وهو ينصرف.
وجد عثمان يمسك يده ويجتذبه إلى الحائط بانزعاج: إلى أين ستذهب؟ دعنا نتكلم!
قال بهاء ببرود: لا يمكنني التكلم معك وأنت بهذه العصبية، اهدأ أولا!
سحب عثمان عدة أنفاس قبل أن يقول بلهجة أرق: 
هيا.. تفضل! أخبرني عن الفخ الذي ستقع فيه بغبائك!
فقال بهاء باقتضاب: ولا تتهمني بهذه الطريقة أيضا! اسمع أولا!
سكت عثمان منتظرا، فقال له بهاء كل ما في جوفه وشرح له، لكن عثمان في النهاية لم يوافق، 
وبعد إصرار وإقناع من بهاء، وافق على مضض، وقبل أن ينصرفا،
 تصافحا وهما ينظران لبعضهما بهدوء وشدّ عثمان بيده على يد بهاء مغمغما:
 أتمنى.. أن تكون خطتك صحيحة ناجحة.
قال بهاء بوجه مهموم: أتمنى ذلك أيضا.. اعذرني يا عثمان، ولكن أنت أيضا لم تقدم لي بدائل،
 أي أنك عارضت وجهة نظري دون أن يكون لديك خطة بديلة ...! هل أحضرت أنت أي خطة وأنا رفضتها؟
أنزل عثمان رأسه بأسف قائلا: لا بأس يا بهاء، لا تغضب مني..
 فقط لم أتخيل أن تنفذ كلام عدوك، وتقع في الفخ باختيارك!
سرح عقل بهاء بعيدا وهو يردد: أقع في الفخ؟ وباختياري!
يا لها من سخرية!

_
 يوم الأربعاء فجرًا

"هل صليت الفجر يا بهاء؟"
_نعم يا عثمان.. ما بك تتصل الآن؟
لاحظ بهاء صوته المختنق، فتساءل بقلق: ما بك؟
قال عثمان متلعثما: لا شيء.. أنا بخير، كيف حالك أنت؟ طمئنني؟
تنهد بهاء: أنا في أحسن حال، عدت من المسجد قبل قليل.
سمع صوت تنفسه المضطرب فقال متوترا: عثمان بالله عليك أخبرني ماذا حصل؟
قال عثمان: لم يحصل شيء.. لا تقلق! كنت فقط أريد الاطمئنان أنك صليت.
سأله بهاء بعد وقت صمت: هل هو.. نفس الحلم؟
قال عثمان مستهزئا: بل الكابوس! لقد طاردني هذه الليلة أيضا.
قال بهاء متسائلا في قلق: عثمان.. هل تقرأ الأذكار قبل النوم؟
سكت عثمان قليلا ثم قال بصراحة: الحقيقة أنني نسيت اليوم، ولكنني في العادة لا أنساها.
تنهد بهاء: لا تنساها أبدا. قد يكون كابوسا مزعجا من الشيطان ولا دلالة له في الواقع،
 أنت فقط اهدأ واذكر الله كثيرا لتطمئن، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
تنهد عثمان تنهيدة راحة، ثم قال: نعم، سأفعل إن شاء الله.
سأله بهاء مترددا: هل ما زلتَ معترضا على خطتي؟
أجابه عثمان بانفعال: نعم، أنا معترض بشدة.
قال بهاء بضيق وألم: ولم يا عثمان؟


فقال عثمان بلطف مشفقا:
 أنا خائف عليك يا بهاء، لا تدري أنت ما هي الأفكار السوداوية التي تدور في عقلي بسببك!
قال بهاء وقد أغمض عينيه بحنق: 
على أي حال لا يمكنني التراجع الآن.. هل وصلت أي معلومات عن بهابيهو؟
أجاب: نعم.. سيظهر غدا ليسرق جوهرة من شركة عشق المعادن!
قال بهاء متفاجأ: غدا؟ أي الخميس؟
_نعم.
_يجب علي أن أستعد جيدا إذن! وهذا يثبت أكثر أن الوقت معدوم للتفكير في حل آخر.
_هذه هي المشكلة!
_

ليلة الخميس:      
شعر طارق بحركة خفيفة خارج غرفته، فنظر إلى غدير النائمة،
 ثم قام خارجا بهدوء شديد بعد أن ألقى نظرة على الساعة التي كانت الثانية ليلا، 
وجد بهاء جالسا على أريكة صغيرة وهو يُمسك هاتفه الذكي ويقرأ القرآن الذي فتحه عليه بصوت هادئ منخفض،
 جلس طارق بجانبه واستمع قليلا لقراءته، لم يكن صوته نديّا وعذبا مثل عثمان ولكنه كان يرتل بتجويد وخشوع،
 بعد دقائق قليلة، أنهى بهاء السورة فأغلق الهاتف ووضعه على المنضدة، ثم استرخى على مقعده، وسأل أباه: 
ما الذي جعلك تستيقظ يا أبي؟
ابتسم طارق: وما الذي جعلك تستيقظ أنت؟
سكت بهاء دون أن يرد، حدّق طارق في عينيه الحائرتين، ثم سأله: أنت قلق أليس كذلك؟
أومأ بهاء برأسه قائلا بشرود: 
وكيف لا أكون قلقا يا أبي؟ غدا العملية الأخيرة! لو أخطأت خطأ صغيرا فستضيع كل جهودي!
ربت طارق على كتفيه في عطف قائلا:
 بنيّ، أنا أعلم مقدار قلقك، ولكنك يجب أن تقوّي قلبك، وتتوكل على الله، إياك أن تسمح للتوتر والقلق أن يتغلب عليك.. 
دائما ما أراكَ قويا يا عزيزي، قويا بالله، فما دهاكَ اليوم؟ أقلقتني!
نظر إليه بهاء وهو يشعر بالخجل من ثقة أبيه، إنه مخطئ، ما كان عليه أن يقول حيرته وقلقه لأبيه، كان عليه أن يُظهر أمامه قوته.

تذكر بهاء وقت أن قال لصديقه عثمان: كن قويا!
يا لهذه المهزلة، الآن أنا أضعف من عثمان، ولا أتمثل بكلامي الذي قلته له، جبان!
قال وهو يُطرق رأسه بألم: 
آسف أبي.. أعلمُ أنني يجب أن أكون قويا جدا الآن، ولكنني فشلتُ في ذلك؛ 
ماذا لو كانت الخطة التي خططتّها لا تصلح للتطبيق؟ حينئذ!
 سأكون.. غير مستحق لثقتك هذه يا والدي.. ربما ستشعر بأنني عار عليك.
زفر طارق مغمغما: 
عار؟ هداك الله، ما هذه الكمية الهائلة من الأفكار السلبية؟
 لم أكن أعلم أن كل هذا يدور بعقلك! جيد أنك أخبرتني الآن.
نظر له بهاء بدهشة خفيفة قائلا: جيد؟  ألست متضايقا مني؟
قال طارق عاقدا حاجبيه: بل ممتن لك لأنك أفصحت عما بخاطرك.
ازدادت دهشة بهاء، وهو يغمغم: ولماذا أنت ممتن يا أبي؟
قال طارق بهدوء مُخيف: لكي أكون متأكدا من الآن من نتيجة العملية.. الفشل الأكيد!
شعر بهاء بصدمة أدهشته وهو يقول متلعثما: الفـ.... شل؟
قال طارق بجفاء: نعم.. أنت ستفشل!
كان بهاء متوقعا من أبيه كلمات الدعم والتحفيز، ولم يخطر بباله أن يقول له كلمات بهذا الإيلام!
آه، حتى أنت يا أبي تتوقع لي الفشل؟ ليس عثمان فقط ...! 
هل خطتي فاشلة إذن لا سبيل لها للنجاح؟
 هل كان من الخطأ أن أقرر قرار كهذا مع بهابيهو دون أن أستشير من حولي؟
 ولكنني فكرت.. فكرت كثيرا ووجدتُ أن لا حل غير ذلك..
آه، كم أنا نادم الآن، أصلا فكرة بهابيهو من أولها كانت خطأ كبيرا، وليس قراري هذا فقط، 
والآن هل ضاع مستقبلي بسبب قرار غبي كهذا في حياتي؟
"بهاء"
كان طارق يُناديه بحنان، بعد أن رآه يُنزل رأسه بشرود حزين، ويغمض عينيه بألم،
 فتح بهاء عينه لينظر إلى وجه أبيه منتظرا ما سيقول!
ولكنه لم يستطع مواجهة عيني أبيه، فأنزل رأسه بصمت.
 لا تنظر إليّ يا أبي أرجوك.. ليس في هذه اللحظة!
قال طارق متبسما: هل صدٌقت أنك ستفشل؟
اتسعت عينا بهاء، فأكمل طارق ضاحكا: بنيّ، لا تأخذ هذا على محمل الجد! 
لقد قلتُ ذلك لأختبر مدى حماسك للنجاح، ولخطتك التي ستنفذها!
ثم أضاف عابسًا: ولكن يبدو أنك بالفعل مُحطّم من الداخل! هيا أخبرني.. من حطّمك قبلي؟ عثمان؟
تنهد بهاء بصوت متهدّج: نعم، لقد كان مُعارضا لفكرتي.. 
ولكنه رضخ لها بعد إقناع مني، ولكنني لم أعلم أن خطتي ستكون فاشلة حقا.
قال طارق بنبرة قوية فيها قليل من الغضب: لا تتكلم عن الفشل!
نظر له بهاء مُستفسرا فقال طارق:
 انظر إلى كلماتي التي قلُتها لك قبل قليل، انظر إلى ألمك وإحباطك حينئذ، أرأيت؟
 أنا أتألم أكثر منك حين تردد على مسامعي أنك ستفشل.

ثم أكمل دون أن يدع لبهاء فرصة الرد: 
كنتَ تريد مني أن أدعمك وأكرر على سمعك بعض كلمات النجاح والتحفيز وأنك يجب عليك أن تقوي نفسك من الداخل أولا،
 بإيمان عميق وثقة راسخة في الله ولكنني لا أريد أن أفعل ذلك بل.. أريد هذا منك أنت.
ثم أكمل في صرامة: 
ماذا يعني إذا عارضك أخوك؟ بل ماذا يعني إذا حطمتك أنا بكلماتي؟
 هل ستتحطم حقا وتُنزل رأسك لي مثل البُؤساء؟
 ابني تنهار معنوياته من أجل بضعة كلمات سمعها من صديقه وأبيه!
 ويفقد حماسه ورغبته في إكمال الخطط؟
ثم أخذ بضعة أنفاس ليقول بحزم:
 نعم أنا ممتن لأنك أخبرتني بذلك قبل فوات الأوان، لأتكلم معك وأقنعك بخطئك،
 هل ستذهب لملاقاة بهابيهو هكذا؟ نفس حزينة واهنة.. كنتَ بالفعل ستفشل!
ثم سكت ليرى ردة فعل بهاء الذي كان هادئا باردا، وإن كان في عينيه مشاعر غامضة لم يستطع طارق معرفتها.
ربت على كتفيه قائلا بحنان:
 اعذرني إن كنتُ قسوت عليك في الكلام، ولكن مستواك المعنوي أغاظني منك.. 
بهاء، أنا لا أريدك أن تثق بنفسك، بل أريدك أن تثق بخالقك ومدبر أمرك،
 لأنك لا تدري عندما تثق بنفسك فمن الممكن أن تخطأ وأن تيأس وأن تتعثر،
 ولكنك إذا وثقت بالله، وبذلت كل ما بوسعك، فمن المستحيل أن تيأس أو تفشل. إياك أن تُعجب بذكائك ونباهتك،
 إن أعجبتك نفسك فسترتكب الأخطاء، وستخسر، لكن بالتوكل على الله أمامك فرصة رائعة،
 النصر فيها مضمون، استغلّها بكل عزم وقوة.

وجد بهاء يبتسم ابتسامة باهتة، بقليل من الامتنان همس: 
عليك أن تعتذر يا أبي لأنك لم تقل لي هذا الكلام منذ زمن طويل!
 كنتُ أحتاج أن أستيقظ من غفوة البؤس والخوف من الفشل! ولم أجد من يوقظني إلا الآن.
ابتسم طارق قائلا: أنا أعتذر بشدة إذن، ما عرفتُ هذا حتى الليلة.
سحب بهاء نفسا عميقا طويلا، ثم زفره في راحة، وقال في تحدّ: 
سترى يا أبي، كلماتك هذه أعادت الحماسة لتخالط مجرى الدم في عروقي! سترى أنني لن أفشل.
قال طارق مسرورا: أتوق لهذا.. هل زالت مخاوفك الآن؟
قال بهاء باشًّا سعيدا: بعد كلامك هذا؟ 
ابتسم طارق وهو يراقبه دون أن تظهر على وجهه فرحته العميقة بابنه، في الواقع بهاء بطل، 
لا يعلم لو كان هو مكانه هل سيكون قادرًا على تحمّل مسؤولية كهذه؟ غالبًا لا، هكذا أقر طارق بنفسه.
غمغم وهو يرى بهاء يشرد في سعادة:
 هداك الله.. لا شك أن جلوسك الكثير مع والدتك جعلك بهذه النفسية، لقد أصبت بالعدوى منها.
ضحك بهاء وهو يُشير بإصبعه مهددا: سأخبرها إذن!
قال طارق مهددا أيضا: هل اشتقت إلى تورّم أّذنيك يا فتى؟
ضحك بهاء وهو يوقف يد طارق قبل أن تمتد على أذنه، وهو يغمغم:
 لا، إلا أذني.. لم أصدق أن تورمها قد زال أخيرا يا أبي.. أنت تشدها بضمير حتى لقد طالت قليلا.
ضحك طارق مُبتهجا بتغير حالته النفسية السريعة، وبادله بهاء الضحك بضع ثوان، ثم سكتا، 


وشرد بهاء مرة أخرى، ولكن شروده كان مُبتسما، بنظرة مُبتهجة، ودون أن يفهم طارق هذه المعاني أيضا.
اقترب منه متسائلا في همس: بهاء..
رفع بهاء وجهه إليه وما زالت الابتسامة مُلتصقة بفمه: لبيكَ..
ابتسم طارق في حنين بسبب كلمته وهو يسأل: 
هلَا أخبرتني _ بعد إذنك طبعا_ عمّا يجول في خاطرك الآن؟ لم أستطع قراءة ما في عينيك.
قال بهاء بلطف: طبعا يا أبي سأخبرك..
ثم قال في لهجة حالمة:
 كنت أفكر، لو كان لي أخُ، أو أخت، 
كنا سنتمتع معا ونضحك كثيرا وأيضا لكنّا تكلمنا معا عن همومنا قليلا بدَل الإثقال عليك أنت وأمي، 
لكنني بصراحة لا أحب أن أخبركما بأفكاري هذه، 
لأنني أعلم أن أمي أصيبت بمرض بعد ولادتي ولم تتمكن من الحمل بعدها.. ولا أريد أن أجرحها إذا قلت ذلك أمامها.
سأله طارق مترقبا إجابته: هل كنت تتمنى أخًا أو أختًا لك يا عزيزي؟
قال بهاء: سأكذب عليك إن قلت لا.
ابتسم طارق في داخله واصطنع الغضب قائلا: هل تريد أن يكون عندي مصيبتان بدل مصيبة واحدة؟
هتف بهاء باستنكار: ماذا؟ أنا مصيبة يا أبي؟
تظاهر طارق بالتفكير: امممم.. لنرى! أعتقد أنك كارثة ولستَ مصيبة!
ضحك بهاء وهو يقوم واقفا ويصطنع الخِصام: أنت تجرح شعوري الرقيق يا أبي، سأذهب للنوم!
هم بالذهاب إلى غرفته، لكن والده سحب يده وقام يضمّه إلى صدره بحنوّ، سمع صوت أبيه المشفق اللطيف: 
بنيّ. نِم ملء جفنيك، ولكن قبلها صلّ ركعات تُطمئن قلبك وتُدخل السكينة عليك..
ابتسم بهاء بعينين دامعتين ولم يقل شيئًا، ثم ذهب إلى غرفته وأغلق الباب،
 وهناك، سجد شاكرا لله بتأثر شديد، وهو يقول:
 ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي
 وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.
_

دخل طارق غرفته فوجد غدير تجلس بترقب، متسائلة: ما الأمر؟ أين كنت؟
نام على السرير مُغمغما: كان بهاء مستيقظا، وتحدثت معه.
قالت بحذر: هل فيه شيء؟
أجاب: لا.. اطمئني..
ابتسمت براحة وهي تضع يدها على قلبها، بهاء هو قلبها ولا يمكن لقلبها أن يرتاح إذا لم يرتح بهاء.
استرخت بجانبه هامسة: فيمَ تكلمتما يا طارق؟
قال وهو مغمض العينين: كان يشكو لي قليلا، وخففت عنه بعض الشيء.
غمغمت غدير بحزن: إنه يحمل همَ الدنيا كلها فوق رأسه، ملامحه لا تعجبني هذه الأيام.
التفت إليها بجدّية قائلًا: علينا الوقوف بجانبه للدعم يا غدير.
أومأت برأسها في تأكيد قويّ، وهي تردد بإشفاق: أعانه الله
_

ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم