أحدث الموضوعات

رواية بهابيهو (الجزء التاسع)


رواية بهابيهو

رواية بهابيهو (الجزء التاسع)

رواية بهابيهو (الجزء التاسع)

(9)

 في الليل 

خرج بهاء للقاء عثمان في صالة الاستقبال في منزله، وهو يسلّم عليه مرحبا، ابتسم عثمان قائلا:
 أرجو أن تكون قد شُفيت..
أومأ بهاء وهو يجلس بجانبه، ويسأل عن أخباره، سأله عثمان في استغراب:
 بهاء لماذا أذناك متورمتان؟
تنهد بهاء في يأس قائلا:
 لقد استيقظت اليوم ظهرًا، فوجدت والداي دخلا علي، 
وأمي تشد أذني اليمنى قائلة: كيف توافق طارق على رأيه كيف؟ 

وأبي يشد أذني اليسرى قائلا: كيف تخبرها بهذا كيف؟

لم يستطع عثمان تحمّل نفسه من الضحك، 
وبهاء يُكمل في إحباط: وكانت النتيجة كما ترى، لقد كبرت أذناي وتورمتا!   
ظل عثمان يضحك وبهاء بدأ بالغضب منه، فقد شعر أنه يضحك على منظر أذنيه!
فغمغم: لك الحق أن تضحك، ولكن لا تنس أن ألم شد الأذنين أكثر قوة من ألم رصاصة سخيفة!  
قال عثمان وهو ما زال يضحك: هكذا؟  
تنهد بهاء دون أن يرد عليه، ثم استرخى في مكانه متسائلا:
 عثمان.. هل جئت هنا لتضحك علي أم لتطمئن؟
ظل عثمان يضحك لدقائق، حتى قال: احم احم.. بالطبع جئت للاطمئنان عليك!
ثم سكت قليلا وقال بجدية: بهاء.. ماذا تنوي أن تفعل بعد ذلك؟

نظر بهاء إليه طويلا ثم قال بملل:
 من ضمن الأسرار التي سمعتها من ذلك البهابيهو، أنه سيقوم بثلاث عمليات قبل أن يورطني مرة أخرى! 
بمعنى آخر سيحاول الظهور مجددا لكي يقول للناس: انظروا أنا بهاء الذي هربت من المستشفى!
ولهذا ليس أمامي الآن إلا انتظار عمليته القادمة، التي بالتأكيد سيعلن عنها للشرطة قبل أن يفعلها، 
لأنه يقصد أن يثبت تهمتي أمامهم! 
وهو واثق أن الشرطة لن تستطيع الإمساك به، لابد أنه سيضع خطة محكمة!
قال عثمان بعد صمت: لقد أعلن بهابيهو عن عمليته القادمة بالفعل!
التفت له بهاء بصدمة، فأكمل: غدًا..  في الساعة الثانية عشر ليلا..
سأله بهاء وهو في قمة الدهشة: وكيف عرفت؟

قال:
 لقد وُجدت رسالة أمام قسم شرطة أبي، رسالة من بهابيهو، إنه أول مرة يفعل هذا!
  وكأنه يريد تحدينا! قائلا: انظروا أنا سأظهر أمامكم رغما عن أنوفكم جميعا! ولن تستطيعوا الإمساك بي.
سأله بهاء في اهتمام كبير: 
ولكنه لم يفعل ذلك؟ هكذا سيكشف للشرطة خطته! 
أليس من الأسلم له أن يمضي للسرقة دون معرفة الشرطة، ثم بعدها تنتشر آثار عمليته، 
هذا لو كان غرضه حقا أن تشتهر عملياته!
قال عثمان عاقدا حاجبيه: 
ولكنه لا يريد أن تنتشر عملياته، بل يريد أن يكسرنا بهروبه رغما عن أنوفنا، 
إنه يستخف بالشرطة يا بهاء.. يتحداها هو شخصيا!
غمغم بهاء: 
عجيب حقا، لماذا يُدخل نفسه في مشاكل؟ هل هناك ضغينة خاصة بينه وبين الشرطة؟

قال عثمان في جدية:
 لا يهمني ضغينته، فهو بالتأكيد مجرم وكل المجرمين يكرهون الشرطة، 
يهمني أنه تحدى قسم شرطة مدينتا، وسيندم على تحديه لنا!
سأله بهاء بعد أن دُهش من جديته في محاربة بهابيهو:
 حسنا وهل قال مكانا معينا؟ أم حدد زمنا فقط؟ 
سيكون من المعقول والمنطقي أن يحدد الزمان فقط ليجعل الشرطة تدور حول نفسها حيرة وترددًا في أي مكان سيسرقه!
قال عثمان بابتسامة جانبية: 
ستندهش لو قلت لك أنه حدد مكانا سيسرقه غدا، لا أدري فيم يفكر ذلك الحقير،
 لقد قال لنا مكان سرقته ووقتها وكأننا أصدقائه! 
ولكنه قال جملة مستفزة في آخر رسالته: اقبضوا علي بلطف!
ثم قال بغيظ مكتوم: كم أودّ القبض عليه لأعلمه اللطف الحقيقي!

نظر له بهاء صامتا، وهو يفكر، بينما تنهد عثمان بغضب محاولا تهدئة نفسه،
 ودخل طارق حاملا بعض الشاي والحلوى وهو يقول مبتهجا: أهلا بك في منزلك يا عثمان!
ردّ عثمان التحية وطارق يجلس أمامهما ويقدم له بعض الشاي، قائلا ليحاول قطع الصمت بين الصديقين:
 تفضل قطعة حلوى من صنع يد بهاء!
نظر عثمان باستغراب إلى بهاء ثم أخذ القطعة من طارق، بينما أكمل طارق ضاحكا: 
إنه طباخ ماهر، أحب كثيرا أكل الحلوى التي يصنعها، بهاء.. سلمت يداك!
نظر بهاء بحرج إلى أبيه هامسا: أبي!

أطلق عثمان ضحكة وهو يتذوقها قائلا: لا بأس بك عاملا في أحد محلات الحلويات!
ضربه بهاء على رأسه قائلا: ومن قال لك أنني أريد العمل في محل حلويات؟ 
ظل عثمان يضحك فقال بهاء مغيرا الموضوع: هيا عثمان أخبرني بمكان خروج بهابيهو!
قال عثمان وهو يرتشف بعض الشاي: فرع لشركة فـارس العالمية.
سأله بهاء: وماذا يريد من هذه الشركة؟ 
هزّ عثمان كتفيه قائلا: وما أدراني؟ يريد سرقتها بالطبع!
غمغم بهاء: 
كل اختياراته للسرقة تكون غريبة هكذا، أشعر بأنه لا يريد السرقة المجردة، لا أدري، 
فهو ليس فقيرا، إنه غني، ورياضي بارع، لديه لياقة عالية، لماذا يسرق؟
 بالتأكيد لديه دوافع أخرى، وربما يتحدى الشرطة كما قلت بالضبط!

قال عثمان بتفكير عميق: 
ولكن يا بهاء، اختياره لموقع شركة فارس لم يكن عشوائيا، فبعد دراسة للموقع،
 وجدنا أن أغلب البنايات التي حول الموقع متقاربة كثيرا، مما يعني سهولة القفز!
 لا شك أنه اختار مكانا سهل الهروب، ولهذا يتحدانا بكل أريحية!
ابتسم بهاء: ولماذا لا تفكر بطريقة أخرى؟
قال عثمان مستغربا: ماذا تعني؟
رفع بهاء نظره للأعلى وهو يقول بغموض:
 ألا يجيد بهابيهو سوى القفز فقط؟ ألا يجيد المشي؟
نظر عثمان إلى بهاء المبتسم بحيرة، ثم إلى طارق الذي كان يستمع لهما بهدوء وهو يراقب طريقة تفكيرهما، 
فقال بهاء موضحا: ألا يستطيع بهابيهو أن يمشي في الطرق؟

قال عثمان بحيرة: 
بالتأكيد يستطيع ولكننا نركز على قفزه العالي الذي لا يجاريه فيه أحد من الشرطة!
قال بهاء: 
وهذا ما أرادكم أن تركزوا عليه،
 فبالتأكيد بعد أن توصلتم لهذا الاستنتاج ستبدؤون بحراسة كل أسطح المباني القريبة من الموقع، برجال شرطة مخفيين، 
ولن يخطر على بالكم أنه سيمشي بشكل عادي وطبيعي جدا في الطريق عائدا إلى منزله! 
وجميع رجال الشرطة الذين ملأوا الأسطح ينتظرونه أن يظهر أمامهم وهو يقفز ثم يفاجئونه بظهورهم الذي سيرعبه ويباغته!
رفع طارق وعثمان حاجبيهما دهشة من تفكير بهاء، وظلّا بعض الوقت ينظران إليه وهو يرتشف كوب الشاي بهدوء،
 ثم قال لهما: ما بكما تنظران لي وكأنني قد اكتشفت شيئا خطيرا!
ابتسما الاثنان وطارق يقول: فقط أنا سعيد بأنك اكتشفت خطته بهذه السهولة يا بهاء!
هز بهاء كتفيه قائلا: لا تنس أنني أجيد القفزات العالية هذه، لذا لو كنت مكانه لفعلت نفس فعله!
ابتسم عثمان في بهجة: سأخبر هذه الخطة لأبي ليضع احتياطاته في الطريق!
قال بهاء بحزم: 
لا يا عثمان لا تخبره،
 رغم كل ما سبق فإن بهابيهو المزيف من الممكن أن يفعلها حقا ويقفز على المباني وسط حراسة رجال الشرطة! 
ألم تقل إنه يريد أن يتحداكم؟
 أنا قلت لك أنني سأفعل هذا لو كنت مكانه فأنا لست أفكر بتحدي الشرطة، يهمني الهروب وحسب!
 أما هو فعنيد بشكل مستفز!
قال طارق موافقا: نعم يا عثمان رأيي من رأي بهاء! إذا أردت الإمساك به فهناك طريقة أخرى! 
سأل عثمان: وما هي؟
ابتسم بهاء في استمتاع وهو يقول له كل ما بخاطره!

_

اليوم التالي، الساعة 12 ليلا 




افترق عثمان وبهاء عن بعضهما وهما يركضان في نفس الشارع لاهثيْن، 
دخل بهاء في شارع ضيق في اليسار، وعثمان في شارع ضيق آخر في اليمين، 
وقد اتفقا مع بعضهما على ملاحقة بهابيهو عندما يظهر في الشوارع، 
حتى توقف بهاء عند مؤخرة زقاق ضيق يُطل على شارع أوسع منه، 
وهو يحاول تهدئة أنفاسه السريعة مراقبا الوضع.. 
كان الهدوء يعمّ المكان، وبهاء ينصت بأذنه يحاول سماع أي خطوات، حتى ولو كانت هادئة. 
حتى شعر بيد قوية من خلفه تمتد لتكتم أنفاسه، تفاجأ بهاء.. حاول التملص منها، رغم شعوره بالاختناق!
لكن أظلمت الدنيا بعينه وهو يختنق!




_

تكلّم المفتش عمير في الهاتف اللاسلكي وهو يُخاطب رجال الشرطة قائلا: 
عندما يتغلب بهابيهو على رجال أمن الشركة فسوف يهرب عبر أسطح المنازل،
 وهذه المرة سيفاجأ برجالنا يملؤون الأسطح! هل سمعتم يا رجال..
 استغلوا فرصة أنه لا يمشي إلا عبر الأسطح ثم أمسكوا به على غفلة منه.
جاءت موافقة الرجال:
 حاضر يا سيدي الخطة مدروسة، بهابيهو لا ندري كيف دخل إلى تلك الشركة!
 مازالت طريقة دخوله مجهولة لدينا، ولكن سيناريو خروجه يبدو مألوفا، لذلك سنقبض عليه هذه المرة بإذن الله..
أومأ عمير موافقا على كلامه ثم أغلق الهاتف والتفت إلى الضابط عبد الرحمن بجانبه في السيارة، 
وهو يسأله قائلا: ألم ترَ عثمان يا عبد الرحمن؟

فكّر عبد الرحمن قائلا:
 لا، أعتقد أنني لم أره منذ جئنا، كان دائما يرافقك في عمليات كهذه، ولكنه هذه المرة مختفٍ.
أطرق عمير برأسه قليلا وهو يفكر أين يمكن أن يكون، قطع تفكيره هتاف أحد رجاله:
 لقد تغلب بهابيهو على رجال الأمن وهو الآن سيهرب قافزا فوق الأسطح!
أتاه أمر عمير سريعا: استعدوا للقبض عليه!
شرع رجال الشرطة في الاستعداد، بينما ترجّل المفتش عمير والضابط عبد الرحمن من السيارة بهدوء، 
والضابط عبد الرحمن يقول: أتظننا سننجح هذه المرة يا عمير؟

تنهد عمير قائلا:
 بعون الله، أظن أننا فعلنا الأسباب التي نقدر عليها، 
فلكيلا يشك بهابيهو في اختباء رجالنا في الأسطح وضعنا عدة سيارات مضيئة حولها رجال من الشرطة، 
على مقدمة الشوارع التي حول الشركة،
 بينما هو يحاول الهرب منها سيصعد إلى الأسطح ليتمكن رجالنا هناك من إمساكه،
 أعتقد أنها خطة جيدة!
ولكن وجد رجلا شرطة قادمان بخطوات سريعة، وأحدهما يقول: 
سيّدي، بهابيهو لم يقفز فوق الأسطح وإنما تجاوز الكمين الذي أعددناه له في الشارع
 ثم هرب من خلال الركض بين الأزقة الضيقة..
هتف عمير بدهشة وغضب: ماذا؟ تجاوز الكمين؟ ويركض في الأزقة؟ 
أرسل أمرا للثلاث دوريات أن يلحقوه، أسرع!
_

حاول بهاء التخلص من تلك القبضة التي تكتمه،
 انحنى سريعا إلى الأسفل ثم رفع مرفقه إلى الأعلى وضرب بطن الشخص الذي خلفه بكل قوة يملكها،
 ثم تحرر من قبضته الكاتمة، والتفت لاهثا ليرى عثمان يتأوه وهو يجثو على ركبتيْه!
هتف بدهشة وأنفاس متقطعة لاهثة:
 عثمان؟ لم فعلت ذلك؟
قال عثمان يبتسم بألم: 
ردة فعلك كانت بطيئة، كنت أختبر سرعة بديهتك بعد أسبوع مرضك هذا!
أخذ بهاء نفسا عميقا محاولا تهدئة أنفاسه: 
أحمد الله أنني لم أستعد قوتي كاملة، لكنتَ فاقدا للوعي الآن!

ابتسم عثمان وهو يستند عليه للوقوف وقال بهاء معاتبا:
 لا تفعلها مرة أخرى يا عثمان، لا تجعلني أؤذيك بيدي!
اتسعت عينا عثمان وهو يسمع جملته ثم ابتسم بحب وهو ينظر إلى استياء بهاء.
التصق ظهر الاثنان بالحائط أكثر وهما يسمعان صوت خطوات شخص ما، همس عثمان لـبهاء:
 بالمناسبة كنت أريد أن أسألك لماذا اخترت هذا الطريق لتراقب منه!
سأله بهاء: وأنا أردت أن أسألك لماذا تبعتني إلى هنا؟
قال عثمان باسما: شعرتُ بأنه يجب أن أكون معك!
قال بهاء بدهشة: فقط؟  
أجاب عثمان: نعم وأنت؟
تنهد بهاء متبسما:
 اخترت هذا الطريق لأنني رأيته مناسبا لهرب بهابيهو..
 لا تنس أن البهابيهويين يعرفون بعضهم.
ثم غمز له مازحا، فضحك عثمان وتابع المراقبة.
أشار له فجأة بالسكوت لأن خطوات الشخص اللذان يسمعانه اقتربت كثيرا،
 كانت خطوات سريعة ولكنها منتظمة، تقترب في سرعة ودقة، ثم ظهر!

دٌهش بهاء وهو يرى بهابيهو مُسرعا، بهابيهو بنفس زيّه الذي اخترعه بهاء،
 الوشاح الرمادي الذي لٌف على رأسه وتلثم به، ملابسه الأثرية التي كانت على الطراز العثماني،
 ولكن كان من الواضح أن بهابيهو المزيف أكبر عمرا من بهاء، وأقوى بنية منه.
قفز عثمان فجأة على بهابيهو، مما تسبب في فقدان اتزان هذا الأخير،
 ساعد ذلك عثمان على الجلوس عليه والقبض على يديه بقوة، وهو يهتف في حماسة:
 أمسكتك يا بهابيهو الوغد!
اقترب بهاء منهما وهو ينظر بوجوم إلى بهابيهو المُقيّد، الذي ضحك ساخرا وهو يقول بصوت هادئ:
 يبدو أن أحدهم فكر بشكل ذكي! المهم أن تُبعد نظراته الحاقدة عني الآن!
قال عثمان غاضبا وهو يمد يده لينزع اللثام من وجهه: 
أرنا وجهك أيها الحقير.
ثم انتبه إلى أنه قد خفف قوة قبض يديه، ولكنه انتبه بعد فوات الأوان،
 إذْ حرّر بهابيهو يديه الاثنتين من يد عثمان الوحيدة ليضربه في بطنه بعنف،
 فيتلوى عثمان من الألم مغمغما: ضربة في بطني مرة أخرى؟

وقام متحاملا على نفسه من الألم، قام بهابيهو واقفا وهو يستغل انحناء عثمان ليركله في رأسه، وهو يقول: 
إياك أن تحلم مرة أخرى بفك اللثام عن وجهي!
لكنه وجد صفعة قوية تهوي على قفاه وبهاء خلفه يهم بضربه مرة أخرى على رأسه،
 فقد اعتاد بهاء على إغماء ضحاياه بعد صفعته القوية على قفاهم، 
وهذا ما سبب مفاجأة لبهاء عندما التفت له بهابيهو بسرعة وهو يهتف غضبا: كيف تجرؤ؟
ثم لكمه لكمة حادة في فكّه جعلته يطير إلى الخلف هاويًا على ظهره، تجلّد بهاء وهو يحاول الوقوف رغم قوة اللكمة،
 لكن بهابيهو أخرج مدّية صغيرة من ثنايا ملابسه وقال في ابتسامة شامتة: 
تحتاج إلى إصابة أخرى من يدي؟
قالها في نفس الوقت الذي هوى بها عليه،
 ولكن آهة الألم لم تكن من بهاء بل من عثمان الذي قفز سريعا ليُبعد بهاء وهو يهتف جزعا:
 بهاء.. لا!

ثم يتلقى هو ضربة المدية في يده اليمنى فتنزف دما قانيا، أمسكها متوجعا،
 ولكنه لم يجد وقتا كافيا للتألم فقد رأى بهابيهو يهمّ بالفرار هاربا وهو يسمع أبواق الشرطة تطارده،
 وقد اقتربت من المكان بشكل كبير، حاول أن يجاريه في القفز ليلحقه،
 لكنه وجد يد بهابيهو تطيش في الهواء وتضرب صدره ثم يختفي بقفزاته المتتالية السريعة، 
فقد عثمان توازنه متراجعا إلى الخلف حتى كاد يهوي على ظهره،
 لكن بهاء أسنده من كتفيه، قائلا بقلق: عثمان، أأنت بخير؟
قال عثمان زافرا: بخير، ولكن بهابيهو أفلت مني!
قال بهاء وهو يشعر بألم بسيط في شفتيه بسبب جرح فيها: 
هوّن عليك يا عثمان، مستواه القتالي والبدني كان أقوى منا بكثير، لم أكن أتوقع ذلك، 
ولكن هذه ليست الفرصة الأخيرة لإمساكه!
قال عثمان حانقا: بالتأكيد سيكون مستواه أفضل منا لأنه شرطي! شرطي يا بهاء!
غمغم بهاء بدهشة: شرطي؟ وما أدراك؟

قال عثمان شاردا وهو عاقد الحاجبين: 
كانت حركاته أو نظراته.. تشبه الشرطة، المهم أنه شرطي، أو كان شرطيا سابقا، أو حاليّ.. 
لا تنس أنني عشت مع الشرطة منذ طفولتي!
قال بهاء: 
هذا غريب جدا.. هات يدك يا عثمان!
رفع عثمان يده الجريحة، أمسكها بهاء وهو يتفقدها ثم ضغط عليها فصرخ عثمان متأوها: 
ماذا تفعل بيدي؟
قال بهاء معاتبا: 
لم يكن عليك أن تدافع عني بهذه القفزة المتهورة!
 ماذا كنت ستفعل لو جاءت المدّية في عينك أو وجهك فأصابتك بعاهة دائمة؟
هزّ عثمان كتفيه مغمغما:
 إذ لم أقفز في اللحظة المناسبة لكانت المدّية قد صنعت خريطة في وجهك أنت!
تنهد بهاء متضايقا وقد شعر أن جرح عثمان بسببه هو، أخرج منديلا قماشيّا من جيبه ولفّه به قائلا:
 ليس لدي أي شيء أُسعفك به الآن.. سوى هذا!
قال عثمان بجدية: 
لا بأس يا بهاء المهم أن تذهب عني الآن، بضعة أفراد من الشرطة قادمون نحونا!
أومأ بهاء برأسه وهو يُسرع في ربط المنديل، ثم قفز سريعا إلى شارع جانبي ومنه إلى شارع أضيق بعد أن همس:
 لا تنس أن تتصل بي لتُطمئنني عليك!

لم تمض بضعة ثوان إلا ورجال الشرطة قادمون نحو عثمان الذي وضع يديه في جيبه لإخفاء جرحه، وسأله أحد الرجال: 
هل أنت بخير يا عثمان؟ 
أومأ برأسه مجيبا: نعم!
قال أحدهم: هل رأيت بهابيهو يهرب من هنا؟ 
قال: نعم، لقد هرب من هذا الاتجاه! حاولت أن أجاريه في هربه فلم أستطع!
قال آخر: لا بأس يا بني المهم أن تذهب إلى والدك، قلق عليك!
اتجه عثمان برفقة أحد الرجال إلى والده الذي كان يتجادل كعادته مع أحد رجال الشرطة بعصبية، 
حول هرب بهابيهو وفشلهم في القبض عليه..
شعر عثمان بشفقة نحو والده الذي يبذل كل ما في وسعه للقبض على بهابيهو، ورغم ذلك فهو يفشل كثيرا! 

ندم عثمان في داخله قائلًا:
"لو كنتُ قلت لأبي أن بهابيهو سيهرب من هذا الطريق لاستطاعت الشرطة إمساكه ولكن (لو) لن تُجدي الآن"

خفض رأسه حزينا وهو يسمع العتاب المعتاد: 
عثمان، أين كنت؟ أين اختفيت؟
قال عثمان مبتلعا ريقه:
 لقد خطر في بالي أن بهابيهو سيهرب من هذا الطريق، ولذلك حاولت الوقوف هناك حتى أُمسكه!
سكت عمير قليلا وهو متفاجأ ثم انفجر صارخا: 
حقا؟ يا لك من طفل! كنتُ أظنك كبيرا على مثل هذه الأفعال، ولكنني فوجئت بك! ما هذه التصرفات الصبيانيّة؟
سكت بعض ثوان قبل أن يقول في لهجة أقل حدة:
 تماما كالصبيان الذين يريدون جلب الأضواء لهم فيحاولون القبض على اللص بمفردهم كي يُصبحوا أبطالا!
ثم قال له غاضبا:
 لماذا لم تٌخبرني قبل ذلك لأرسل معك رجلي شرطة على الأقل لكي يراقبا معك؟
همس عثمان: أنا آسف!
أشاح عمير بوجهه وهو يهم بركوب سيارة الشرطة، 

بينما وضع الضابط عبد الرحمن يده على كتف عثمان مواسيا، ثم قال له متبسما:
 هيا اركب يا عثمان لنصل إلى القسم وتحكي ما حصل معك بالتفصيل!
قال عثمان متوترا بوجه متعرّق:
 لا يا حضرة الضابط، سأذهب مشيا لتكون هذه رياضة لي!
فقد كان عثمان يخشى أن يعرف والده أنه قد جُرح فتزيد جرعة الصراخ الروتينية المؤلمة،
 ويبدو أن عمير التفت له بحدة، فقال عثمان راجيا:
 أرجوك أبي سأذهب لأشتري بضع حاجيات لأمي قبل أن آتي!
سحبه عمير بعنف من يده الجريحة التي كانت في جيبه قائلا:
 ستشتريها وأنت معي في السيارة، اركـ..
وتوقف كلامه وهو ينظر بصدمه إلى يد عثمان الجريحة التي يُمسكها،
 نظر إليها قليلا ثم رفع نظره إلى عثمان الذي أغمض عينه بألم مستعدا لجرعة والده الصاروخية في العتاب.
كان المنديل الذي وضعه بهاء قد تضرج كله بدماء جرحه، مما جعل منظرها مخيفا، صاح عمير: وما هذا أيضا؟
غمغم عثمان بصوت منخفض: جرح بسيط!
قال عمير مستهزئا:
 حقا؟ جرح بسيط؟ وتخبئه عني؟ إذن اركب معي الآن وحسابك علي بعد تضميده! هيا!

_


ليست هناك تعليقات

تعليقاتكم دوما تُشجعني، فشكرُا جزيلا لكم